في مطلع القرن العشرين، واجهت الأطباء الرواد في جراحة القلب مشكلة عويصة: كيف نستطيع إجراء أية عملية جراحية للقلب المريض بينما يستمر هذا القلب في النبضان وضخ الدم إلى كافة أرجاء الجسم في دورة حيوية مستمرة ؟! كان القلب منطقة مجهولة، وكان مجرد التفكير في علاج مرض في القلب بعملية جراحية أقرب إلى الأحلام وكوابيس الموت المزعجة التي لا يرغب أي طبيب ولا حتى بالتفكير فيه خوفاً مِنْ أنْ يتهمه زملاؤه بالجنون والتخريف. وكان اقتراح القيام بعملية جراحية في القلب مغامرة محفوفة بخطر إثارة المعارضة الشديدة والاتهامات القاسية.
العمليات الأولى
في التاسع من شهر سبتمبر سنة 1896، قام الطبيب الألماني لودفيغ رين Ludwig Rehn (1849-1930) بأول عملية جراحية قلبية ناجحة عندما تمكَّن مِنْ خياطة جرح نازف القلب أصيب به شاب إثر طعنة في صدره. اخترقت السكين صدر المريض وأصابت البطين الأيمن بجرح قاطع أدى إلى نزف شديد كاد أنْ يودي بحياة المريض، ولكنّ الطبيب الجراح الماهر سارع بإسعاف المريض، وفَتَح صدره، وقام بخياطة الجرح في البطين الأيمن، وتمكن مِنْ إنقاذه بما يشبه المعجزة. ولذا يَعتبر كثير مِنَ المؤرخين سنة 1896 بمثابة يوم ميلاد جراحة القلب بسبب هذه العملية الرائدة. وهكذا انتقلت عملية رين بجراحة القلب مِنْ عالم الأحلام والتمنيات والمغامرات الخطرة إلى عالم الواقع الذي يستطيع فيه الجراح أنْ ينقذ المريض مِنَ الموت المحتم.
وما أنْ وصلنا إلى الحرب العالمية الأولى حتى نَشر الجراح رين نتائج 124 عملية مماثلة قام فيها بخياطة جروح مختلفة في القلب، وكانت نسبة الوفاة فيها 40%. ومع نهاية الحرب العالمية الثانية، قام دوايت هاركن Dwight Harken (1910-1993) بنشر نتائج 134 عملية قام بها خلال الحرب لإزالة شظايا وقطع معدنية مختلفة في القلب دون أنْ تحدث معها ولا حتى وفاة واحدة! وهكذا وُلدتْ جراحة القلب في ميدان المعركة بين الطعان والحرب.
ثيودور توفييه Theodore Tuffier (1857-1929) الرائد الفرنسي الشهير في جراحة الصدر والقلب.
البروفسور توفييه وعالَم أبحاثه المذهلة
يُعتَبر الطبيب الفرنسي ثيودور توفييه Theodore Tuffier (1857-1929) أحد أهم العلماء والباحثين في تاريخ جراحة الصدر والقلب والأوعية الدموية. فقد كان جراحاً ماهراً أجرى كثيراً منَ العمليات، كما قام بكثير منَ الأبحاث العلمية في باريس وفي معهد كارنيجي بمدينة نيويورك مع العالِم الشهير أليكسيس كاريل Alexis Carrel (1873-1944). ولعل أهم إنجازاته العلمية كانت في مجال التخدير، واستئصال الرئة، وعمليات القلب. ففي عام 1896 نشر توفييه نتائج أبحاثه الرائدة عن التنفس الاصطناعي بوضع أنبوب مطاطي في الرغامى (أنبوب التنفس) ومنح التنفس للمريض تحت ضغط مرتفع.
وفي عام 1891 كان توفييه أول مَنْ قام بعملية استئصال جزء مِنَ الرئة التي خربها مرض السل الرئوي. كما نَشَر بالتعاون مع أليكسيس كاريل في عام 1914 أبحاثاً هامة عن إجراء عمليات القلب في حيوانات التجربة بطريقة القلب النابض. وصف هذان العالمان إجراء عمليات على صمامات القلب بطريقة فذة تعتمد على إغلاق طرق وصول الدم إلى القلب وإيقاف تدفق الدم لفترة قصيرة تكفي لفتح القلب وإصلاح الصمام المصاب. وبيّنت أبحاثهما أنّ القلب يتحمل هذه العمليات الخطيرة، ولكنهما لاحظا أنه إذا طالت هذه الفترة أكثر مِنْ دقائق ثلاث، فإن جميع حيوانات هذه التجارب ماتت دماغياً بسبب توقف الدورة الدموية. وبالرغم مِنْ ذلك، فقد شجعت تجارب توفييه وكاريل الأطباء والجراحيين على استكشاف الطرق الجراحية التي يمكن أنْ تعالج أمراض صمامات القلب بعد أنْ عرفوا أنّ القلب يستطيع تحمل مثل هذه العمليات.
العالِم الشهير أليكسيس كاريل Alexis Carrel (1873-1944)
ويقال أن توفييه قام في عام 1912 بإجراء عملية جريئة لفتح تضيّق في الصمام الأبهري بالضغط بإصبعه على جدار الأبهر نحو الصمام الأبهري، وتوسيع الصمام المتضيّق بأصبعه دون أن يفتح الشريان الأبهر، وعاش المريض بعدها 12 سنة ! ولذا يُعتبر توفييه رائداً هاماً في البحث العلمي الطبي التجريبي ومؤسساً حقيقياً في جراحة القلب والصدر. وقد حصل أليكسيس كاريل على جائزة نوبل في 1912 تقديراً لأبحاثه في طرق خياطة الأوعية الدموية وزراعة الأعضاء، في حين لم يحصل توفييه على ذلك التقدير.
المصدر:
كتاب "قصة القلب كيف كشفه رجاله" للدكتور عامر شيخوني
