صحــــتك

هل آباؤنا مسؤولون عن مشاكلنا النفسية؟

هل آباؤنا مسؤولون عن مشاكلنا النفسية؟
سواء أكنت ترعرعت مع أم عصبية المزاج، أو كان لديك أب لا يحب رؤية الأطفال أو سماع صوتهم، فلا شك أن تجارب طفولتك كان لها تأثير كبير على حياتك، وحتى لو كنت محظوظاً بما يكفي للنمو في منزل أبويك المحبين لك، فهناك فرصة جيدة أن يكون لديك بعض الذكريات التي لا تحبها تماماً، وربما كان والداك يتوقعان أن تكون مثالياً، أو ربما أحبك والداك ولكنهما لم يعْطِياك أبداً المهارات التي تحتاجها لتكون ناجحاً.

على العموم لا يوجد شيء اسمه (طفولة مثالية)، وعلى الرغم من أن بعض صراعاتك قد تكون ساعدت في أن تصبح أقوى، إلا أن الأخرى ربما تركت في نفسيتك ندوباً عاطفية طويلة الأمد.



* جذور مشكلتك
ربما طورت معتقدات أساسية أثرت - في أثناء نشأتك - على كل شيء في حياتك مستقبلاً؛ بدءاً من كيفية تفسيرك لظروفك إلى الخيارات التي اخترتها.

ولكن ما مدى أثر الخلل، الذي كانت تعاني منه عائلتك في طفولتك، في صراعاتك الحالية؟ هل تنبع مشكلات تقديرك لذاتك من تلك التعليقات النقدية التي استخدمتها والدتك حول مظهرك؟ هل يمكنك أن تعزي مشاكل القلق الخاصة بك مرة أخرى لعائلتك، في الوقت الذي بدأ فيه والداك بالضغط عليك حتى تصبح ملتزماً أكثر من اللازم؟

إذا ألقيت باللوم على والديك في ندوبك النفسية، فأنت لست وحدك، فالكثير من الناس على يقين من أن آباءهم هم سبب مشاكلهم النفسية، وليس هناك شك في أن الآباء، وغيرهم من مقدمي الرعاية الرئيسيين، شخصيات مهمة في نمو الطفل.. نحن نعلم أن التجارب المبكرة المتعلقة بالأسرة لها آثار عميقة وطويلة الأجل على الأطفال، ومن الطبيعي أن يكون أغلبها إيجابيا.

ومع ذلك، فإن تجارب الطفولة السلبية يمكن أن تسبب أذى أو ضائقة، وقد تعيق نمو الطفل البدني و/ أو النفسي إلى حد ما، ومن الأمثلة على هذه التجارب الفقر أو سوء المعاملة أو الطلاق الوالدي أو وفاة أحد الوالدين.



* ما يكشفه البحث
في دراسة نشرت عام 2013، في PLOS One، سلطت الضوء على النموذج النفسي الاجتماعي للصحة النفسية، وتستند هذه النظرية إلى فكرة أن مشاكل الصحة النفسية تنبع من مجموعة من العوامل:
1- عوامل بيولوجية.. والتي تشمل أي شيء تعرّضت له من صدمات الرأس إلى علم الوراثة.
2- عوامل نفسية.. والتي تشمل الطريقة التي تفكر بها، كأن تواجه الكثير من الشكّ، أو ما إذا كنت تحافظ على نظرة متفائلة أو متشائمة.
3- عوامل اجتماعية.. والتي تشمل الظروف العصيبة أو السلوكيات المستفادة التي تؤدي إلى مشاكل الصحة النفسية.

وقد أراد الباحثون في هذه الدراسة إلقاء نظرة فاحصة للتعرف على سبب خروج بعض الأشخاص من طفولتهم البائسة بأذى محدود نسبياً، بينما يعاني آخرون من عواقب تدوم مدى الحياة.

ووجدوا أن العامل الأكبر الذي يؤثر على مرونة شخص ما هو عملياته النفسية؛ فالأشخاص الذين ألقوا اللوم على أنفسهم أو ألقوا اللوم على والديهم أو الذين كانت لديهم تجاربهم السلبية، كانوا أكثر عرضة لمشاكل الصحة النفسية المستمرة بعد تجارب سلبية.

هذا لا يعني أن مشاكلهم النفسية لم تنبع من تجارب طفولتهم. لكن أولئك، الذين ألقوا اللوم على ظروفهم الحالية وعلى والديهم، عانوا من ارتفاع معدلات الإصابة بمرض نفسي، لكن عندما يغير الناس طريقة تفكيرهم، تتحسن مشاكلهم النفسية.

كما وجدت دراسات أخرى وجود روابط بين التجارب المحددة والنتائج السلبية المختلفة، مع وجود آثار تستمر حتى بلوغ سن الرشد، وعلى سبيل المثال، تزيد تجربة الطلاق الوالدي أو الانفصال أو التعايش مع مقدم رعاية مريض نفسياً، من خطر الإصابة بمشكلات الصحة النفسية طوال العمر الإفتراضي.

وأجرت مجموعة بحثية أخرى دراسة توضح أن الطلاق الوالدي يؤدي إلى زيادة خطر الإصابة بالاكتئاب مدى الحياة لدى الأولاد، ومن المعروف أيضاً أن محن الطفولة غالباً ما تكون مترابطة، وعلى سبيل المثال، يمكن أن يؤدي الطلاق الوالدي إلى تغيير في الوضع الاجتماعي والاقتصادي للعديد من الأسر، ولقد أظهرت الدراسات أن تراكم الظروف المعاكسة يزيد من خطر حدوث مشاكل صحية نفسية مختلفة، وقد تقود إلى الانتحار.



* الضعف مقابل المرونة
ولكن كيف يمكن لبعض تجارب الطفولة المؤلمة أن يكون لها تأثير على الشخص مدى الحياة؟ أحد التفسيرات المحتملة هو أن التعرض لمثل هذه الأحداث يزيد من تعرض الشخص لآثار الأحداث المجهدة لاحقاً، وعلى سبيل المثال، يمثل الطلاق تجربة صعبة بالنسبة لمعظم البالغين، فهو يرتبط بأعراض القلق والاكتئاب، لكن الأشخاص الذين عانوا أيضاً من المحن المبكرة يعانون من مخاطر أكبر لتطوير مثل هذه الظروف نتيجة الطلاق.

إلا أنّ تجربة الظروف القاسية في الطفولة لا تجعل الناس أكثر عرضة للخطر بالضرورة، وفي الواقع بعض الأطفال لا يعانون أبداً من عواقب سلبية، حتى في مواجهة الشدائد المتعددة الشدة؛ حيث يطلق علماء النفس على هذه السمة مصطلح (المرونة).

في ظلّ هذه الظروف، تعزز التجربة السلبية مقاومة الإجهاد اللاحق، ويتعرف الأشخاص المرنون على أنفسهم عندما يواجهون أوقاتاً عصيبة، فهم يتعلمون كيفية إدارة سلوكهم بشكل أفضل، والتعامل بنجاح مع الضغط في المستقبل.

يبدو أن الطريقة التي يستجيب بها الطفل للتجارب المرهقة تعتمد على مزيج معقد من العوامل التي تختلف بين الأفراد، بما في ذلك جيناتهم ومزاجهم وقدرتهم المعرفية.

لكن من المهم أن نتذكر أن النتائج السلبية لصدمات الأطفال لا يمكن تجنبها، حتى في مرحلة البلوغ، حيث لم يحن الوقت بعد لمنع أو عكس النتائج، حتى من المعاملة القاسية مثل الإيذاء الجسدي أو العاطفي والإهمال.

يمكن أن تكون برامج التدخل الانتقائي، المصممة خصيصاً لأولئك الذين يعانون من الشدائد المتعددة في مرحلة الطفولة - مثل العلاج السلوكي المعرفي أو تدريب العقل - مفيدة بشكل خاص.



* ابحث عن تفسيرات من دون تقديم الأعذار
قد يكون من المفيد البحث عن تفسيرات حول سبب صراعك مع بعض القضايا، لا أن تقدم أعذاراً لها؛ إذْ أن الفرق بين:
- التفسير بقولك: "لقد نشأت في منزل كثير الصراخ، لذلك عندما أشعر بالغضب، من المعتاد رفع صوتي".
- وتقديم العذر بقولك: "الصراخ هو الطريقة الوحيدة التي يمكنني بها لفت انتباه والدي كطفل، إنني حتى لا أستطيع التواصل من دون رفع صوتي".

ومع ذلك، يجد الكثير من الناس أنه من الأسهل ببساطة إلقاء اللوم على والديهم بسبب مشاكلهم، وقد يبدو أن إيجاد سبب جذري للألم مفيد، أي من الأفضل بالتأكيد إلقاء اللوم على والديك بدلاً من إلقاء اللوم على نفسك.

أظهرت دراسة كبيرة، شملت أكثر من 30000 مشارك من 72 دولة، أن إلقاء اللوم على الآباء لا يساعد الناس على الابتعاد عن الآثار السلبية للتجارب الصعبة، ووجدت الدراسة أن أولئك الذين حصلوا على تجارب سلبية، مثل سوء المعاملة أو إلقاء اللوم على الآخرين أو أنفسهم، كانوا أكثر عرضة للإصابة بمشكلة نفسية من أولئك الذين لم يفعلوا ذلك.

تشير الدراسة بالتالي إلى أن العمليات النفسية، مثل إلقاء اللوم على الآباء، يمكن أن تكون أكثر خطورة على الصحة النفسية من التجارب السابقة نفسها، وإذا كنا نريد أن نتغلب على عبء ماضينا ونتقدم، فإننا نحتاج إلى التوقف عن إلقاء اللوم على الآباء والأمهات وماضينا، والتركيز بدلاً من ذلك على حاضرنا والسيطرة على حياتنا.

أثبتت التجارب الإيجابية للبالغين، مثل النشاط البدني المنتظم والتعليم العالي والدعم الاجتماعي، أنها تحسن النتائج النفسية، بما في ذلك الوظيفة الإدراكية والصحة النفسية والرفاه. وبالنسبة لمشاكل الصحة النفسية الشديدة والمستمرة، يمكن أن يكون طلب المساعدة - بدءاً من التحدث، إلى العلاج إلى الدواء - طريقاً للمضي قدماً نحو الحياة الصحية.

بغض النظر عن خلفيتك، لا تنسَ أن الوقت لم يفت بعد لتعزيز حياتك بتجارب إيجابية، والابتعاد عن الظل الطويل لمحن الطفولة، والقليل من العمل يمكن أن يساعدك على فتح مرونتك الداخلية.


* خلاصة القول
لا تكن مثل أبي العلاء المعري عندما قال:
"هذا جناه أبي عليّ وما جنيتُ على أحد"

إذْ مهما كان نوع تجارب الطفولة التي مررت بها، يمكنك تعلّم طرائق صحية أكثر للتفكير والشعور والسلوك، والخطوة الأولى في بناء القوة الذهنية لديك تتمثل في تجنب إلقاء اللوم على والديك وأنهما سبب مشاكلك الحالية.

فإذا كنت تواجه وقتاً عصيباً بشكل خاص في التعامل مع شيء ما منذ طفولتك - أو حتى ما قد حدث لك خلال حياتك وأنت بالغ - ولم تستطع تجاوزه؛ عندها يمكنك طلب المساعدة من قبل الأخصائي النفسي.
آخر تعديل بتاريخ
31 ديسمبر 2019
Consultation form header image

هل تحتاج لاستشارة الطبيب

أرسل استشارتك الآن

 

  • ابحث على موقعنا عن إجابة لسؤالك، منعا للتكرار.
  • اكتب بريدك الإلكتروني الصحيح (الإجابة ستصلك عليه).
  • استوفِ المعلومات الشخصية والصحية المتعلقة بالحالة المرضية محل الاستشارة.
  • لن يتم إظهار اسمك عند نشر السؤال.

 

Age gender wrapper
Age Wrapper
الجنس
Country Wrapper

هذا الموقع محمي بواسطة reCaptcha وتنطبق عليه سياسة غوغل في الخصوصية و شروط الخدمة

This site is protected by reCAPTCHA and the GooglePrivacy Policy and Terms of Service apply.