أسوأ ما في مهنة الطبيب أنه لا يستطيع أن يخلع عنه عباءة المهنة ويرتدي ثوب المواطن العادي، والأسوأ أن يمارس الطبيب ذلك على نفسه، حين لا يستطيع أن يكبح جماح علمه ومعرفته في التصدي لخرافات الآخرين ومعلوماتهم المغلوطة تجاه الأشياء. حدث معي هذا الأمر في زيارة عائلية ولا أدري ما الذي دفع خالتي وزوجتي وأختي إلى تقمّص دور الخبير العالم ببواطن الأمور حين دار بينهم هذا الحوار الآتي:
- ربما هي أنيميا، سأخبرك باسم مستحضر رائع يحتوي على الحديد جربته بنفسي مع كل صديقاتي ونتائجه مذهلة.
- ماذا عن الإمساك؟ أفضل شيء هو العسل الأسود والبنجر والتمر.
- لكن لا بد لها من تفادي أكل الفول والبقوليات عمومًا لأنها ستزيد من نسبة الأنيميا.
- الأكل لن يفيد، قلت لكم أن أفضل شيء هي الأدوية، وخصوصًا الحقن، صديقتي كانت تأخذ الحقن مرتين أسبوعيًا، وهي الآن بأفضل حال، واستعادت وزنها وعافيتها.
- اللحوم الحمراء مفيدة أيضًا.
- وتمنع الشاي والقهوة وكل المكيفات خصوصًا بعد الأكل لأنها تمتص الحديد وتزيد الأنيميا و.. إلخ.
كان هذا أكثر من قدرتي على الاحتمال في هذا الصراع الثلاثي بين "حزب الفيتامينات والمكملات الغذائية" بلا رقيب أو حسيب، و"حزب دوائك في طعامك" الشهير، و"حزب العادات الخاطئة أم الشرور".
وترحّمت على تخصص أمراض الدم الذي يقضي بعض الأطباء عمرهم لا يمارسون غيره، بينما التشخيص واحد والحل سهل وبسيط طرحته ثلاث من نساء عائلتي، وحمدت الله أن لم تنضم لهم أمي أو أي من بناتي لزاد الأمر عن حده وصار الموضوع شائكًا وصعبًا.
أحسست بالشفقة على كرات الدم الحمراء التي ليست بكرات، بل هي مجرد أطباق مقعّرة الجانبين أشبه بقطع لعبة طاولة الزهر، قطرها 8 ميكرون وعمرها الافتراضي لا يتجاوز الـ120 يومًا في تلك الرحلة المجهدة ما بين تكونها في نخاع الدم، حتى وصولها لمرحلة النضج والسعي بين أروقة أنسجة الجسم وأوعيته الدموية بلا كلل أو ملل ما بين الرئتين وباقي أعضاء الجسم تنقل الأكسجين وثاني أكسيد الكربون بالتبادل، حتى تتهشم بين تجويفات وجيوب الطحال ليتم إعادة تدوير الهيموغلوبين مرة أخرى بشكل سلس وعبقري. وتتمتع تلك الخلايا بغشاء مزدوج ونظام معقد من الإنزيمات، بل ونسب محددة من أنواع الهيموغلوبين المختلفة.
أحسست بالحزن لأن أي خلل في هذه الرحلة كفيل بأن يسبب فقر الدم؛ ففقر الدم في النهاية ليس مرضًا في حد ذاته بل هو عرض لخلل ما أو مرض أكبر، بل وربما خارج جهاز الدم وأعضائه، كالنزيف مثلًا، سواء من الجهاز الهضمي، وهو الأشهر، أو من الجهاز التناسلي النسوي أو الجهاز البولي أو أي شكل من أشكال النزيف الواضحة أو المخفية، ولأجل حل كل هذا اللبس قررت أن أبدأ معهم ومعكم رحلة فقر الدم منذ مراحل ما قبل التكون وحتى الفقد، ولا يمكن أن نتحدث عن علاج فقر الدم قبل أن نتعرف على مسبباته المختلفة.
- ربما هي أنيميا، سأخبرك باسم مستحضر رائع يحتوي على الحديد جربته بنفسي مع كل صديقاتي ونتائجه مذهلة.
- ماذا عن الإمساك؟ أفضل شيء هو العسل الأسود والبنجر والتمر.
- لكن لا بد لها من تفادي أكل الفول والبقوليات عمومًا لأنها ستزيد من نسبة الأنيميا.
- الأكل لن يفيد، قلت لكم أن أفضل شيء هي الأدوية، وخصوصًا الحقن، صديقتي كانت تأخذ الحقن مرتين أسبوعيًا، وهي الآن بأفضل حال، واستعادت وزنها وعافيتها.
- اللحوم الحمراء مفيدة أيضًا.
- وتمنع الشاي والقهوة وكل المكيفات خصوصًا بعد الأكل لأنها تمتص الحديد وتزيد الأنيميا و.. إلخ.
كان هذا أكثر من قدرتي على الاحتمال في هذا الصراع الثلاثي بين "حزب الفيتامينات والمكملات الغذائية" بلا رقيب أو حسيب، و"حزب دوائك في طعامك" الشهير، و"حزب العادات الخاطئة أم الشرور".
وترحّمت على تخصص أمراض الدم الذي يقضي بعض الأطباء عمرهم لا يمارسون غيره، بينما التشخيص واحد والحل سهل وبسيط طرحته ثلاث من نساء عائلتي، وحمدت الله أن لم تنضم لهم أمي أو أي من بناتي لزاد الأمر عن حده وصار الموضوع شائكًا وصعبًا.
أحسست بالشفقة على كرات الدم الحمراء التي ليست بكرات، بل هي مجرد أطباق مقعّرة الجانبين أشبه بقطع لعبة طاولة الزهر، قطرها 8 ميكرون وعمرها الافتراضي لا يتجاوز الـ120 يومًا في تلك الرحلة المجهدة ما بين تكونها في نخاع الدم، حتى وصولها لمرحلة النضج والسعي بين أروقة أنسجة الجسم وأوعيته الدموية بلا كلل أو ملل ما بين الرئتين وباقي أعضاء الجسم تنقل الأكسجين وثاني أكسيد الكربون بالتبادل، حتى تتهشم بين تجويفات وجيوب الطحال ليتم إعادة تدوير الهيموغلوبين مرة أخرى بشكل سلس وعبقري. وتتمتع تلك الخلايا بغشاء مزدوج ونظام معقد من الإنزيمات، بل ونسب محددة من أنواع الهيموغلوبين المختلفة.
أحسست بالحزن لأن أي خلل في هذه الرحلة كفيل بأن يسبب فقر الدم؛ ففقر الدم في النهاية ليس مرضًا في حد ذاته بل هو عرض لخلل ما أو مرض أكبر، بل وربما خارج جهاز الدم وأعضائه، كالنزيف مثلًا، سواء من الجهاز الهضمي، وهو الأشهر، أو من الجهاز التناسلي النسوي أو الجهاز البولي أو أي شكل من أشكال النزيف الواضحة أو المخفية، ولأجل حل كل هذا اللبس قررت أن أبدأ معهم ومعكم رحلة فقر الدم منذ مراحل ما قبل التكون وحتى الفقد، ولا يمكن أن نتحدث عن علاج فقر الدم قبل أن نتعرف على مسبباته المختلفة.
* أنواع الأنيميا من حيث الأسباب المرضية.
أولًا: نقص تكوين كرات الدم الحمراء
وهو ما ينقسم بدوره لثلاثة أنواع:-
فشل خلايا النخاع (نقي العظام).. سواء لفشل النخاع مثل:
- فقر الدم اللاتخليقي Aplastic Anemia.
- نتيجة اختراق النخاع وتدميره بخلايا غريبة مثل سرطانات الدم كاللوكيميا Leukemia.
- مرض تليف نخاع الدم Myelofibrosis.
- متلازمة خلل التنسج النخاعي Myelodysplastic Syndrome.
-
خلل في خط تكوين كرات الدم الحمراء من الخلايا الأم مثل:
- الأنيميا المصاحبة للفشل الكلوي المزمن Chronic Renal Failure.
- الأنيميا المصاحبة للأمراض المزمنة عمومًا Anemia Of Chronic Illness.
- كسل الغدة الدرقية Hypothyroidism.
- فشل تكوين كرات الدم الحمراء من الخلايا الأم Pure Red Cell Aplasia
-
خلل أو نقص في تصنيع كرات الدم الحمراء مثل:
- أنيميا نقص الحديد Iron Deficiency Anemia.
- نقص حمض الفوليك.
- نقص الفيتامين بي 12، وهو ما يسمى بالأنيميا الخبيثة Pernicious Anemia، أو أنيميا الأرومات الضخمة Megaloplastic Anemia.
- متلازمة خلل التنسج النخاعي Myelodysplastic Syndrome.
ثانيًا: زيادة تكسير أو فقد كرات الدم الحمراء
وهو ما ينقسم إلى نوعين كبيرين:النوع الأول: النوع الوراثي أو الخلقي.
وهو المسؤول بشكل كبير عن أسباب الأنيميا عند الأطفال، ويشمل:- أنيميا تكسير كرات الدم الحمراء الوراثية أو الخلقية Herdeitary Hemolytic Anemia، وهي تنقسم حسب مكان وسبب الخلل لثلاثة أنواع رئيسية:
- خلل في تخليق الهيموغلوبين Hemogobinopathies، ويأتي على رأسها بالطبع أنيميا البحر المتوسط، أو ما يعرف بالثلاسيميا Thalassemia بأنواعها والأنيميا المنجلية Sickle Cell Anemia.
- المشكلة الثانية وهي ما تعرف بمشاكل الغلاف Membrane Defects مثل مرض تكوّر كرات الدم الحمراء أو مرض الكريّات Spherocytosis.
- أما المشكلة الثالثة فهي مشكلة الإنزيمات Enzymopathies ويأتي على رأسها أنيميا الفول أو نقص إنزيم غلوكوز-6-فوسفات ديهيدروجينيز أو المعروف اختصارًا بحروفه الأولى G6PD، وهو ما يسبب زيادة في تكسر كرات الدم الحمراء حين التعرض لبعض الأدوية خصوصًا المسكنات والمضادات الحيوية أو بعض الأكلات مثل الفول الحراتي والملانة وبعض البقوليات.
- النوع الثاني المكتسب هو ما قد يحدث في أي فئة عمرية وبأشكال مختلفة ومتعددة، وهو ما يحتوي باقي أسباب الأنيميا مثل:
- تكسير كرات الدم المناعي Immune Hemolystic Anemia، سواء كرات الدم الحمراء فقط أو كجزء من أمراض مناعية أخرى كالذئبة الحمراء Systemic Lupus Erythematosis.
- التهابات جرثومية مثل التهاب المايكوبلازما الرئوي Mycolpasma Pneumonia.
- زيادة تكسير كرات الدم الحمراء في الطحال باختلاف أسبابه أو ما يسمى بالطحال الشره Hypersplenism، وهو ما نراه كثيرًا لدى المرضى الذين يعانون تضخمًا في الطحال.
- فقد الدم نفسه سواء بالنزف داخليا مثل نزيف الجهاز الهضمي أو الجهاز التناسلي النسوي أو غيره، أو النزف خارجيا كحالات الجروح والطعنات والحوادث وغيرها من مصادر فقد الدم، بالإضافة لبعض الأسباب الأخرى مثل متلازمة الاختلال المتفشي للتجلط داخل الأوعية الدموية Dissiminated Intravascular Coagulopathy أو المعروف اختصارًا باسم DIC، وهو ما قد يحدث مع الأمراض شديدة الوطأة أو حالات التسمم أو الاعتلال الشديد وغيرها، وأخيرًا وليس آخرًا متلازمة نوبات تبول الهيموغلوبين الليلي أو الاسم الأكثر تعقيدًا وهو بيلة الهيموغلوبين الليلي Paroxysmal Nocturnal Hemoglobinuria.
* تصنيف عملي للأنيميا
بالطبع، التعامل مع أسباب الأنيميا المتعددة بهذا الشكل لا يساعد الطبيب، لذا فإنه من باب التسهيل واختصار الأسباب وفتح المجال لاتباع وسيلة تشخيصية متسلسلة ومنطقية، فقد دأب العلماء على تصنيف أنواع الأنيميا أو فقر الدم حسب متوسط حجم كرات الدم الحمراء أو بمعنى أسهل حسب شكل كرات الدم الحمراء وحجمها:- Microcytic Anemia (أقل من 80 فيمتوليتر) أنيميا الخلايا الصغيرة إن كان حجمها قليلًا وشكلها صغيرًا، وعلى رأسها:
- أنيميا نقص الحديد، وهو السبب الأشهر على الإطلاق سواء كانت أسباب هذه الأنيميا هي نقص غذائي أم سوء امتصاص أم زيادة فقد مزمن للحديد، ولكل مسبب أسبابه المختلفة أيضًا التي لن ينصلح الحال إلا بالوصول إليها وحل المشكلة من جذورها.
- والسبب الثاني الشهير هو الثلاسيميا، والذي يعتبر مجالاً كبيرًا له مؤسساته وأبحاثه وطرق علاجه ومحاولات الوقاية منه وحل المشكلة على مستوى الجينات.
- والسبب الثالث هو أنيميا الأمراض المزمنة، وتسمم الرصاص والسيدروبلاستيك أنيميا Sideroplastic Anemia أو فقر الدم الانسيابي.
- Macrocytic Anemia أو أنيميا كرات الدم الحمراء الضخمة (أكثر من 100 فيمتوليتر)، وهو ما سبق أن أشرنا إليه تحت اسم أنيميا الأرومات الضخمة أو الأنيميا الخبيثة، ومن أسبابها:
- نقص حمض الفوليك أو الفيتامين ب 12.
- نقص هرمون الغدة الدرقية.
- متلازمة خلل التنسج النخاعي.
- ازدياد ظهور الخلايا الشبكية Reticulocytosis.
- Normocytic Anemia، وهو ما يعني أن كرات الدم الحمراء حجمها طبيعي (ما بين الـ 80-100 فيمتوليتر)، وهو ما يندرج تحته:
- أنيميا تكسر كرات الدم الحمراء.
- فقد الدم الحاد أو النزيف.
- أنيميا فشل النخاع.
- الأمراض المزمنة أو فشل الأعضاء مثل الفشل الكلوي المزمن.
* علاج فقر الدم
هكذا نجد أن الأمر أعقد مما تعتقده نساء عائلتي، وأن أفضل شيء لعلاج فقر الدم هو التوصل إلى التشخيص السليم الصحيح، وعلاج السبب من جذوره، لأن الاكتفاء بإعطاء المكملات الغذائية أو الحديد أو حتى نقل الدم هو أشبه ما يكون بإعطائك نقودًا لابنك المهمل الذي يأتيك باكيًا كل يوم من المدرسة لأنه أضاع مصروفه، فلا تقوم سوى بإعطائه المزيد من النقود متجاهلًا أن ثمّة ثقبا كبيرا واضحا في جيبه، وأن المصروف لن يظل فيه مهما فعلت.عزيزي لا تحرث الماء ولا تكتب عليه، لأن لكل شيء سببا ولا يتم علاج الشيء إلا بعلاج سببه، وهذه بعض الأمثلة التي تدلل على أن اختيار علاج فقر الدم يعتمد على الأسباب.