هل نزعت يدك سريعا لأنك استشعرت حرارة ما لمسته للتو؟ هل تستشعر برودة الطقس في الشتاء؟ هل لعبت كرة القدم؟ هل تدرك أن كل حركة وكل تمريرة تحتاج إلى معرفة مخك بكل مواضع أطرافك ومفاصلك؟ هل تحسست ملمس قماش ملابس ابنك واطمأننت إلى جودته؟
تبدو تفاصيل عادية، لدرجة أنك قد لا تقف لوهلة كي تفكر فيها، لكن جائزة نوبل في الطب هذا العام مُنحت لاثنين من العلماء قررا التوقف والتفكر في هذه الأمور، لكنهما لم يمنحا هذا التفكير لحظة من عمرهما، بل منحاه أغلب حياتهما.
* ليست التفاحة ولكنه الفلفل هذه المرة
فاجأنا منظمو جائزة نوبل في الطب هذا العام، حيث ذهبت الجائزة إلى ديفيد جوليوس وأردم باتابوتيان، وليست التفاحة لكنه الفلفل هذه المرة.كثير من الأساطير تقوم حول ثمرة التفاح، إذ يقال إن الشجرة المحرمة التي أكل منها آدم كانت شجرة تفاح، وفي الأسطورة الإغريقية القديمة بدأت أحداث حرب طروادة بصراع على ثمرة تفاح، ويقول البعض إن اللحظة التي توقف فيها نيوتن ليسأل عن سر الجاذبية كانت بسبب سقوط ثمرة تفاح على رأسه.
ويبدو أن اللحظة التي جعلت ديفيد جوليوس يتوقف ويتساءل لم تكن لحظة تلذذ بطعم التفاح، بل على العكس كانت لحظة شعور بالسخونة والحرارة والالتهاب والألم. يبدو أن جوليوس تساءل عن سر هذا الشعور، كان يعرف بالطبع أن خلاياه العصبية قد استثارها الفلفل ومررت سيالا عصبيا، عبارة عن تيار كهربي، سافر إلى المخ، وهناك جرت ترجمته إلى هذا الشعور.
لكن جوليوس لم يكن ليكتفي بذلك، هو يريد أن يعرف تفاصيل هذا الأمر، كيف بدأ السيال العصبي وبدأ جريان الكهرباء.
كان جوليوس على علم أن المادة التي تسبب هذا الإحساس في الفلفل هي مادة كابسيسين، وتوقع أنه لو عرف بماذا يرتبط هذا الكابسيسين لعرف المزيد عن سر الإحساس بالحرارة والألم.
لحسن الحظ نعرف اليوم الكثير عن الدي إن إيه (DNA) والجينات، ولولا معارفنا اليوم عن الدي إن إيه والجينات ما تقدم ديفيد جوليوس خطوة واحدة، ولولا التقنيات الحديثة في قراءة ونسخ الدي إن إيه ما عرف من أين يبدأ بحثه، هكذا العلم يبدو وكأنه كالبنيان يشد بعضه بعضا.
ربما علينا قبل أن نمضي قدما فيما قام به جوليوس أن نراجع بعض المعلومات البسيطة للغاية. نعرف أن معلومات كل العمليات الحيوية موجودة في داخل الدي إن إيه، لكن من أجل تحقيق هذه العمليات يجب على الجسم أن يصنع البروتينات كي تقوم بهذه الوظائف الحيوية، وفي سبيل ذلك ينسخ من الدي إن إيه حمضا نوويا آخر هو آر إن إيه (RNA) الرسول والذي يحمل بدوره الشفرة ويتجه بها إلى الريبوسومات حيث تُصنَّع البروتينات المطلوبة.
كان جوليوس يعرف أنه يبحث عن بروتين، هذا البروتين يرتبط بشكل ما بالكابسيسين ويؤدي هذا الارتباط إلى تغير ما يبدأ تلك الأحاسيس. لكن كيف يعثر على هذا البروتين، ربما عليه ألا يبحث عن البروتين نفسه، بل يبحث عن الأصل، عن الشفرة. بحث في الخلايا العصبية الحساسة للكابسيسين في القوارض، عن آر إن إيه الرسول الموجود في تلك الخلايا والذي يشفر للبروتينات ومنها البروتين المطلوب، صنع دي إن إيه المكمل، وهي تقنية يمكن من خلالها صناعة دي إن إيه من آر إن إيه، لكنه هذه المرة دي إن إيه يحمل شفرات البروتينات العاملة في هذه الخلية فقط. هكذا حصل على الجينات العاملة في تلك الخلايا واستطاع بناء مكتبته. قرر جوليوس عزل هذه الجينات واكتشاف ذلك الجين الذي متى أضفناه لخلية أخرى لا تتأثر بالكابسيسين، تصبح حساسة له.
هكذا حقق الكشف العلمي العظيم الخاص به، اكتشف ذلك الجين القادر على جعل الخلايا حساسة للكابسيسين، وعرف البروتين الذي يصنعه هذا الجين، واتضح أنه بروتين يعمل كبوابة أيونية، متى تأثر سمح بتدفق الأيونات، وهو ما يغير من الجهد الكهربي ويبدأ تيار الكهرباء الذي ينتقل على طول الأعصاب حتى يصل إلى المخ.
لم يكتفِ جوليوس بذلك، بل بحث في مدى تأثر تلك البوابة من البروتين بارتفاع درجة الحرارة، ووجد أنها تنشط مع درجات الحرارة المرتبطة بالشعور بالألم، أي مع درجات الحرارة فوق 40 درجة مئوية والتي يكون الإحساس بها في صورة ألم.
تواصلت الأبحاث بالطبع والتي أدت إلى اكتشاف أن الحيوانات التي تفتقر إلى هذا المستقبل أو البوابة أو البروتين الذي اكتشفه جوليوس لا تعاني إلا إلى افتقار بسيط للإحساس بدرجات الحرارة المؤلمة، وهو ما يعني وجود مستقبلات أخرى تؤدي هذه الوظيفة، وهو ما فتح الباب للبحث عنها وتم تعيينها بالفعل.
* ليس الفلفل هو البطل الوحيد بل النعناع كذلك
هذا التبصر الفريد في مسألة الفلفل ألهم جوليوس أن يتبصر كذلك في الإحساس بالبرودة المرتبط بالنعناع، لكنه لم يكن منفردا في ذلك هذه المرة، فقد فكر باتابوتيان في الفكرة نفسها. والجميل أن الاثنين تتبعا الفكرة وحققا نتائج لكن بصورة مستقلة عن أحدهما الآخر.كانا على علم أن المنتول الموجود في النعناع هو المسؤول عن هذا الإحساس، لذا بحثوا عن المستقبل الذي قد يتحد معه وبالفعل وجدوه، واكتشفوا أن نزعه من خلايا الفئران يفقدها القدرة على الاحساس بدرجات الحرارة غير الضارة. كان هذا بمثابة الفتح لاكتشاف مستقبلات أخرى من النوع نفسه، أعانتنا على فهم قدرة الحيوانات على الاحساس بالتباين في درجات الحرارة.
* أسئلة مشروعة
كيف استطاعت البكتيريا تحمل ضربات الطبيعة؟ وكيف استطاع أجدادنا مطاردة الغزلان والهروب من أمام قطيع هائج؟إجابة السؤال الأول عُرفت في الثمانينيات من القرن المنصرم عندما استطاع العلماء تحديد المستقبلات التي تتأثر بالتغيرات الميكانيكية في أحد أنواع البكتيريا، هذه المستقبلات مكنت البكتيريا من الإحساس ببعض التغيرات الهامة في البيئة من حولها وبالتالي مقاومتها.
إلا أن السؤال الثاني يبدو وكأنما أرق باتابوتيان طويلا، كان من المعروف أن هذه المستقبلات موجودة في الفقاريات بالتأكيد، إذ إن الإثارة الناجمة عن التغيرات الميكانيكية تؤدي إلى إثارة بعض الخلايا وبدء سيال عصبي، ويبدو أنه قد كان ثمة اعتقاد كذلك في أن هذه المستقبلات الميكانيكية هي المسؤولة عن الأحاسيس كاللمس وموضع أطرافنا بالنسبة لنا وغيرها.
ورغم ذلك كانت هذه المستقبلات مراوغة جداً، ويبدو أن أحداً لم ينجح في القبض عليها، وظلت متفلتة وعصية قبل باتابوتيان. لقد استطاع العثور عليها بفكرة متميزة كذلك، إذ استطاع تحديد خط خلايا قادر على الاحساس بالتغيرات الميكانيكية في البيئة من حوله، وبدأ البحث في جيناتها، كان يبحث عن جينات تشفر لبروتينات تمتد عبر الغشاء الخلوي وتتكون من بوابة أيونية وبروتينات غير معلومة الوظيفة، استطاع من ذلك تحديد 72 جينا، وبدأ تعطيلها واحدا تلو الآخر، ومتابعة ما إذا كان ذلك قادراً على تعطيل قدرة الخلايا على الاحساس بالتغيرات الميكانيكية، حتى عثر على ضالته. ليس هذا فقط، فقد أمكن العثور كذلك على مستقبل ثانٍ يتأثر أيضا بالتغيرات الميكانيكية ولكن هذه المرة عن طريق بحث التشابه فيما بينهما ولا شيء أكثر.
* لم تنتهِ القصة.. بل لعلها بدأت للتو
قد يتساءل البعض عن أهمية كشف مثل هذا، والحقيقة لهذا الكشف أهمية كبيرة جدا للغاية، لا تكمن فقط في إدراك أكبر لأنفسنا وكيف نشعر بأنفسنا والعالم، وكيف تأقلمنا معه، بل كذلك في فهم الكثير من الأمراض الجينية المرتبطة بطفرات تؤدي إلى عطب بعض تلك المستقبلات الهامة، وهو ما قد يؤدي مستقبلا إلى اقتراح علاجات لها، قد تكون علاجات جينية.- على سبيل المثال هناك متلازمة الألم العرضي العائلي من النوع الأول، وهي تنتج عن عطب أحد المستقبلات التي تتأثر بالبرودة والحرارة، وتؤدي إلى شعور بالألم في الجزء العلوي من الجسد وهو ألم يحفزه التوتر والبرودة والصوم.
- هناك كذلك بعض التشوهات الجسدية والخلل في الإحساس باللمس أو بالذبذبات أو بالوضع الذي يتخذه الجسم والتي قد تنتج عن طفرات في المستقبلات الميكانيكية.
- هناك أيضا بعض صعوبات التنفس في حديثي الولادة، والتي قد يكون منشؤها خللا في المستقبلات الميكانيكية، إذ إن من ضمن وظائفها الإسهام في تنظيم حركة التنفس والإحساس بمدى امتلاء الرئة بالهواء.
- هناك كذلك بعض أمراض تكسير كرات الدم الحمراء وأمراض الجهاز الليمفاوي التي قد يكون الخلل في المستقبلات الميكانيكية سببا فيها.
وغيرها من الأمراض التي قد تكون هذه الكشوف بداية النهاية لها.