في سنة 1926، وَصف طبيب التخدير الاسترالي مارك ليدويل Mark C. Lidwill (1878-1969) جهازاً محمولاً صغيراً قال عنه ما يلي: " يوضع أحد الأقطاب الكهربائية على الجلد بعد لفه بقطعة قماش مبللة بسائل ملحي قوي ... ويكون القطب الكهربائي الآخر عبارة عن إبرة معزولة كهربائياً فيما عدا منطقة رأسها المدبب الذي يوضع على منطقة من القلب ... يمكن تغيير سرعة النبضات الكهربائية لهذا الجهاز الناظم للنبض بين 80 – 120 نبضة في الدقيقة، كما يمكن تغيير شدة التيار الكهربائي بين 1.5 – 120 فولت ".
واستَخدم هذا الجهاز سنة 1928 في مستشفى النساء في شارع كراون في مدينة سيدنيCrown Street Women's Hospital لإنعاش طفل ولد ميتاً، ولكن " بعد تطبيق الجهاز لمدة عشر دقائق استعاد قلب الطفل قدرته على النبض بانتظام". ربما كانت هذه هي أول حالة في التاريخ يتم فيها تنظيم دقات القلب باستخدام جهاز كهربائي منظم لنبضات القلب.
ناظم الخطى ... المايسترو الكهربائي
يرجع الفضل في وضع اسم جهاز ناظم الخطى القلبي Cardiac Pacemaker إلى عالِم الفيزيولوجيا الأمريكي ألبرت هيمان Albert S. Hyman (1893-1972) الذي اخترع جهازاً كهربائياً يتم شحنه يدوياً بتدوير نابض معدني بطريقة تشبه ربط ساعات الجدار المنزلية. استَخدم هيمان اسم مُنَظِّم القلب الصناعي Artificial Pacemaker سنة 1932 لوصف الجهاز الكهربائي الذي يقوم بتنظيم نبض القلب وقيادته مثلما يقود المايسترو فرقة موسيقية.
لكن، تأخيراً حصل في انتشار استخدام هذه الأجهزة بسبب الشعور العام لدى الناس بأن هذه الأجهزة تغير سير " الطبيعة " وتثير خشيتهم العفوية مِنْ فكرة " إحياء الموتى " و " إطالة الأعمار " والتدخل في تغيير " مشيئة الإله "! ففي تلك الأيام كانت الوفاة مرتبطة بتوقف القلب وعدم وجود النبض، ولذلك لم يَنشر هيمان نتائج أبحاثه عن تنظيم نبض القلب عند الإنسان خوفاً مِنْ رد الفعل العام عليها ورفض زملائه الأطباء لها. وربما كان ذلك أيضاً وراء عدم متابعة ليدويل لأبحاثه في هذا المجال.
أول الأجهزة المنظمة
قام ويلفرد بيغلو Wilfred G. Bigelow (1913-2005) مع جون كالاهان John A. Callaghan وجون هوبز John Hopps في كندا باستخدام أقطاب كهربائية خارجية (عبر الجلد) للتحكم بنبض الأذينة اليمنى للقلب في حيوانات التجربة. وفي عام 1949 خلال إحدى تجاربهم توقف قلب أحد كلاب التجربة عن النبضان فجأة.
وكتب بيغلو يصف ما حدث آنذاك: " انطلاقاً مِنْ شعوري بفقدان الأمل، وفي محاولة يائسة لإنقاذ التجربة، قمتُ بوخز قلب الكلب بمسبار معدني كان في يدي ... انقبض القلب بأكمله استجابة لهذا التنبيه، ومع تكرار وخز القلب أظهرت القياسات أنّ القلب ينبض بقوة ويضخ الدم بضغط طبيعي مع كل وخزة". بحثَ هذه الظاهرة مع الدكتور كالاهان، وباستخدام الكلاب ثم الأرانب توصلا معاً لاكتشاف التيار الكهربائي المناسب لتنبيه القلب بسلامة وكفاءة، وعرضا فيلماً عن هذه التجارب أثناء المؤتمر السنوي لجمعية الجراحة في أمريكا سنة 1950.
وقام بصنع ناظم الخطى الخارجي المهندس الكندي جون هوبز John Hopps (1919-1998) وفق توجيهات جراح القلب بيغلو في مستشفى تورونتو العام. كان الجهاز آلة كهربائية كبيرة استُخدمت فيها المصابيح الكهربائية المفرَّغة لكي تقوم بتنظيم نبض القلب عبر الجلد دون فتح الصدر. كانت آلة بدائية نوعاً ما وسبّبتْ كثيراً مِنَ الألم للمرضى لأنها كانت تستمد الطاقة الكهربائية مِنْ مخارج التيار المتناوب العادي المستخدَم في المستشفى، ولذلك كان استخدامها يحمل مخاطرة تعرّض المريض للصدمة الكهربائية وإصابته بالرجفان البطيني.
جون هوبز John Hopps (1919-1998) المهندس الكندي الذي صنع أول منظم كهربائي خارجي لصدم القلب وجهاز تنظيم نبض القلب سنة 1949.
ويلفرد بيغلو Wilfred Bigelow (1913-2005) طبيب جراحة القلب الكندي الذي شارك في اختراع المنظم الخارجي لنبض القلب وكان من رواد استخدام تبريد المريض في جراحة القلب.
صمّم هوبز أيضاً أول سلك منظِّم لنبض القلب يمرر عبر وريد في الرقبة إلى الأذينة اليمنى عن طريق قثطرة، وأمكن بواسطته تنظيم نبض القلب في حيوانات التجربة. وفي 1950 بدأ بول زول أبحاثه عن تنظيم نبض القلب بناظم الخطى الخارجي عبر الجلد وجدار الصدر. نُشرت الأبحاث الأولية عن تنظيم نبض القلب في 1952، وأدت إلى تغيير هام في طرق علاج المرضى المصابين بإحصار القلب التام أو توقف النبض.
ولا شك بأن استخدام ناظم الخطى الخارجي كان يسبب الألم للمريض بسبب مرور التيار الكهربائي القوي في الجسم، وكان الأطباء يضطرون لاستعمال المسكنات والمهدئات عند تطبيق هذا الجهاز على المريض، كما سبب استخدام الجهاز لفترة طويلة حروقاً في الجلد في موضع الأقطاب الكهربائية، وكانت أطول فترة مسجلة في استخدام هذا الجهاز هي 11 يوماً. طور زول بعدها جهاز ناظم الخطى الخارجي الذي كان يعمل ببطارية يمكن إعادة شحنها حسب اللزوم، كما أضيفت تحسينات كثيرة في الأقطاب الكهربائية المستخدمة بحيث أصبحتْ ناقليتها أفضل وأقل ألماً.
جهاز تنظيم نبض القلب الخارجي الذي كان يعمل بالكهرباء قبل سنة 1957
1957: بطارية الإنقاذ
أسّس الأمريكي إيرل باكين Earl Bakken (1924) مع صهره بالمر هيرموندسلي Palmer Hermundslie (1919-1970) شركة الإلكترونيات الشهيرة ميترونيك Medtronic داخل قبو صغير في منزلهما في مدينة مينيابوليس سنة 1949. كان عملهما يقتصر في البداية على إصلاح الأجهزة الكهربائية للمستشفيات المجاورة في تلك المدينة. وفي ذلك الوقت كان جراح القلب الشهير كلارنس والتون ليليهاي Clarence Walton Lillehei (1918-1999) يقوم بعملياته الرائدة في إصلاح أمراض القلب الولادية.
وكان حوالي 10% مِنْ هؤلاء المرضى يعانون اضطرابات هامة في نظم القلب بعد العملية، وكان الأطباء يستخدمون أدوية مثل الأدرينالين والأتروبين والأيزوبرينالين في علاج هذه الاضطرابات بشكل مؤقت ريثما يستعيد القلب انتظام النبض الطبيعي. ولكنّ ذلك لم يكن ناجعاً في بعض المرضى، وكان على الأطباء البحث عن وسائل أخرى. فكر ليليهاي باستخدام ناظم الخطى الخارجي الذي صممه زول، ولكنه كان كبيراً ومؤلماً بسبب تطبيق تيار كهربائي مرتفع الشدة فيه مما جعل تطبيقه صعباً على الأطفال.
في سنة 1957 طَوَّر ليليهاي وزملاؤه أسلاكاً كهربائية توضع مؤقتاً على القلب مباشرة أثناء العملية ليتم وصلها إلى ناظم الخطى الخارجي واستخدامها في تنظيم نبض القلب إذا احتاج المريض لذلك بعد العملية، ويتم سحب هذه الأسلاك الرفيعة قبل خروج المريض من المستشفى. لا يحتاج القلب لأكثر مِنْ تيار كهربائي ضعيف شدته 1.5 فولت لكي يستجيب للتنبيهات الكهربائية في هذه الأسلاك بسبب تماسها المباشر مع عضلة القلب. تم استخدام هذه الأسلاك لأول مرة سنة 1957 في علاج مريضة عمرها 3 سنوات عندما حدث لها إحصار قلبي تام بعد عملية إصلاح لمرض رباعي فالو في القلب. نجح تنبيه القلب وتنظيم نبضه عبر هذه الأسلاك، واستعادت الطفلة النبض الطبيعي بعد بضعة أيام مِنْ مساعدتها بالتنبيهات الكهربائية، ومرَّتْ فترة النقاهة بسلام.
ولكن سرعان ما ظهرتْ بعض المشاكل، فقد كان الجهاز الكهربائي الخارجي الذي استُعمل لتنظيم نبض القلب كبيراً وثقيلاً، وكان يَعتمد على وصله بتيار كهربائي عادي إذ لم يكن فيه بطارية. وفي 31 أكتوبر 1957 حدث في المدينة انقطاع مفاجئ للتيار الكهربائي لمدة 3 ساعات، وللأسف فقد أدى ذلك إلى وفاة طفلة كانت تعتمد على هذا الجهاز بعد عملية قلب.
حزن ليليهاي وغضب كثيراً لفقد مريضته. وفي اليوم التالي مباشرة طلب ليليهاي مِنْ المهندس الكهربائي باكين أنْ يجدوا له حلاً أفضل مِنْ ذلك الجهاز. وبعد 4 أسابيع فقط مِنَ العمل والتجريب واستخدام الترانزيستور في الدارة الكهربائية نجح باكين في صنع أول منظِّم لنبض القلب يعمل بالبطارية، وقال عن ذلك: " دون أنْ يكون لديّ أيّ تصورات عظيمة عن هذا الجهاز توقعتُ أنْ يكون مفيداً في مساعدة مرضى الدكتور ليليهاي.
قدتُ سيارتي إلى مختبر الأبحاث في الجامعة حيث يمكن اختبار الجهاز في حيوانات التجربة. وبالطبع عمل الجهاز جيداً. وفي اليوم التالي ذهبتُ إلى المستشفى للعمل في أمر آخر عندما لاحظتُ إحدى مريضات ليليهاي في غرفة الإنعاش ... كانت المريضة تحمل الجهاز الذي قمتُ بصنعه والذي سلمته للمستشفى في اليوم السابق ! فوجئتُ بذلك واتصلتُ فوراً بالدكتور ليليهاي وسألته عما جرى. وأجاب بطريقته الهادئة المعتادة أنَّ العاملين في المختبر أخبروه أنَّ الجهاز يعمل بشكل جيد ولم يشأ أنْ يضيع دقيقة أخرى بدونه، وذكر أنه لن يسمح بحدوث وفاة لمريض آخر بسبب أننا لم نستخدم أحدث التقنيات المتوفرة في علاجه ".
إيرل باكين Earl Bakken (1924) المهندس الكهربائي الأمريكي الذي صنع أول منظم خارجي لنبض القلب يعمل بالبطارية سنة 1949 وشارك في تأسيس شركة ميترونيك العالمية.
منظم القلب الكهربائي الخارجي الذي اخترعه باكين Bakken سنة 1957
تطورت أجهزة ناظم الخطى الكهربائية القلبية كثيراً فيما بعد، وأصبحت صغيرة جداً بحيث يمكن زرعها داخل الجسم، ثم أضيفت إليها تقنيات البرمجة الإلكترونية وأصبحت جزءاً أساسياً في خطة علاج المصابين باضطرابات دقات القلب، وتلك قصة أخرى.
المصدر:
كتاب "قصة القلب، كيف كشفه رجاله" للدكتور عامر شيخوني