أثارتْ أول عملية لزرع القلب سنة 1967 مشكلة أخلاقية خاصة لمْ يكن لدى الأطباء والقانونيين ورجال الدين إجابة حاسمة لها. ما هو الفارق بين الحياة والموت؟ وكيف تتحَقق وفاة الإنسان؟ هل هي بتوقف القلب عن العمل وتوقف النبض والتنفس؟ أمْ أن الوفاة قد تَحدث على الرغم من استمرار النبض والتنفس؟ كما طَرَحَ القيام بزرع القلب مِنْ جديد وبقوة ساخنة قضيةَ رفض الأعضاء المزروعة، وضرورة وجود حلٍّ ناجع لها قبل أنْ يتمكن الأطباء من القيام بمثل هذه العمليات الخطِرة.
ما هو تعريف الوفاة طبياً؟ وقانونياً؟
في سنة 1968، شُكِّلتْ لجنة خاصة في جامعة هارفارد الأمريكية للتوصُّل إلى تعريفٍ طبي وقانوني للوفاة. ترأَّسَ هذه اللجنة هنري بيتشر Henry Beecher المعروف بتركيزه المستمر على أخلاقيات البحث العلمي، وتحذيراته المتكررة من قبول نتائج الدراسات الطبية دون تمحيص وتدقيق. كما ضَمَّتْ بين أعضائها الدكتور جوزيف موراي Joseph Murray أول مَن قام بعملية زرع الكُلية عند الإنسان، وكان قد أَجرى هذه العملية في توأم حقيقي سنة 1954.
ضَمَّتْ اللجنة أيضاً خبراء في الأمراض العصبية وجراحة الأعصاب، وخبراء في القانون وعلم النفس، ورجال دين. استغرقت أبحاث اللجنة في حل مشكلة تعريف الوفاة أكثر من ثمانية أشهر قبل أنْ تتوصل إلى اتفاق حول ذلك، وقَرَّرتْ وجوب تحقّق أربعة شروط قبل توقيع الطبيب شهادة الوفاة. كانت هذه الشروط هي: عدم الاستجابة للألم، وعدم وجود أي حركة إرادية، وغياب الانعكاسات العصبية اللا إرادية، وغياب كل نشاط كهربائي في تخطيط الدماغ. وقَضَت اللجنة بضرورة استمرار وجود هذه الشروط مدة أربع وعشرين ساعة على الأقل قبل إعلان الوفاة طبياً وقانونياً.
منذ ذلك الوقت ظَهَرَ مبدأ "الوفاة الدماغية" الذي يعني أنّ الوفاة الحقيقية التي لا رجعة بعدها إلى الحياة تَحدُث عندما يتوقف الدماغ عن العمل بشكل نهائي، حتى لو استمرتْ في العمل بعض أعضاء الجسم الأخرى مثل القلب والرئة والكُلية تحت تأثير الأدوية والأجهزة الميكانيكية المساعِدة.
كيف يمكن إثبات حدوث الوفاة الدماغية؟
منذ ذلك الحين، تطوَّر مفهوم وأساليب إثبات الوفاة الدماغية كثيراً، وأُجريتْ أبحاث ومؤتمرات عديدة حولها، وكُتبتْ مقالات علمية وقانونية وأخلاقية ودينية كثيرة عنها، إلا أنّ المبدأ أصبح مقبولاً لدى العامة والخاصة، وإن كانت فكرة التبرع بالأعضاء بعد الوفاة مازالتْ صعبة الانتشار في بعض المجتمعات.
ويَسمح قبول مبدأ الوفاة الدماغية الآن بالتبرع بالأعضاء بعد الوفاة، وأن يتمكن مُتبرِع متوفى واحد من المساعدة في علاج تسعة مرضى على الأقل، وذلك بفضل تطور عمليات زرع قرنية العين والكُلية والقلب والرئتين والكبد والبنكرياس والأمعاء والجِلد والعظام ... ولكن كيف يتحقق الأطباء إلى أي من المرضى يمكن نقل هذه الأعضاء بنجاح؟ وكيف نستطيع فحص توافق الأعضاء المزروعة مع خلايا المَناعة فلا ترفضها بسرعة؟
المصدر:
كتاب "قصة المناعة، كيف كشفها رجالها" للدكتور عامر شيخوني