لعل بعضنا قرأ ما رواه ابن العماد الحنبلي في كتابه "شذَرات الذهب في أخبار مَن ذهب" عما قاله ابن السماك للخليفة هارون الرشيد بما معناه: "بالله يا أمير المؤمنين لو مُنِعتْ عنك شربة ماء، بكم تشتريها؟ قال: بنصف ملكي، فسأله: ولو مُنع خروجها من جسمك، فبكم تشتريها؟ قال: بنصف ملكي، فقال ابن السماك: إن مُلكًا قيمته شربة ماء لَجدير بألّا يُنافَس عليه"، أي أن ابن السماك آمَن بأن مُلك هارون الرشيد يساوي شربة ماء! بمعنى أن الصحة والعافية أغلى مِن مُلك الدنيا.
ما هي أهمية الماء لصحتنا؟
يشكّل الماء نحو 60 بالمئة من وزن جسم الإنسان، ويدخل في بُنية جميع خلايا الجسم، وهو ضروري لاستمرار كافة التفاعلات الحيوية في خلايا جسمنا، خاصة في تفاعلات توليد الطاقة اللازمة للحياة. ومِن هنا تَنبع أهمية الماء في حياتنا. نشعر جميعًا بأهمية الماء عندما نتعرض للعطش، إذ تصاب أجسامنا بأعراض مزعجة عندما نتعرض لفقد الماء والتجفاف، فيصيبنا الصداع والعطش وتسرع التنفس وارتباك البصر وتشوش الذهن وجفاف الفم والحَلق والجلد، وإذا بلغ التجفاف مراحل شديدة قد تصل الحالة إلى الإغماء والوفاة.
ما أهمية تخلص أجسامنا من الماء الزائد عن حاجتنا؟
الطريقة الرئيسية الواضحة التي يتخلص بها جسمنا من الماء هي طرح الماء بشكل البول، ولكننا نتخلص أيضًا من بعض الماء الزائد بشكل بخار الماء الخارج من الرئتين مع هواء الزفير، وكذلك نتخلص من الماء عن طريق التعرق. وهذا يعني أن هناك دورة مستمرة للماء في أجسامنا، إذ يدخل الماء إلى الجسم مع الطعام والشراب، ويخرج عن طريق البول والتعرق وهواء الزفير، وكأن دورة الماء تقوم بغسل أجسامنا من الداخل. فكيف يتم صنع البول في أجسامنا؟ وكيف يتم طرحه؟
كيف يتم صنع البول في الكلية؟
يقال دائما إن الكلية مصفاة أو فيلتر يعمل على تنقية الدم من كثير من المواد الضارة أو الفائضة وغير المفيدة للجسم، وتطرحها خارج الجسم مع البول، وهذا صحيح بشكل أساسي، إنما يجب ألا نتصور أن الكلية مجرد مصفاة مثقبة يمرر الدم من خلالها ما يلزم طرحه من ماء ومواد زائدة أو ضارة، لأن الكلية في الحقيقة ليست مثل مصفاة أو فيلتر سلبي، بل تقوم الكلية بتصفية الدم وتخليصه من الماء الزائد والمواد الضارة للجسم عبر عمليات عضوية وحيوية انتقائية.
كما تعد الكلية عضوًا معقدًا جدًّا يقوم بوظائف عديدة مهمة بالإضافة إلى تصفية الدم وتنقيته، مثل تحفيز صنع الكريات الحمر في نقيّ العظام، وتنظيم وضبط ضغط الدم، وصنع بعض المواد المفيدة للجسم مثل الفيتامين د.
سنركز هنا فقط على كيفية قيام الكلية بعملية صنع البول وتصفية الدم.
كما هو معروف، يحتوي جسم الإنسان على كليتَين تقعان في الجزء الخلفي من البطن، ويغذي كلَّ كلية شريان كبير ينشأ من الشريان الأبهر البطني مباشرة، كما يَصدر عن كل كلية وريد كبير ينضم إلى الوريد الأجوف السفلي، ويصدر عن كل كلية حالبٌ يتجه نحو الحوض لينضم إلى المثانة حيث يتجمع البول لفترة مناسبة قبل أن يتم طرحه إلى خارج الجسم.
تتألف كل كلية من قشرة ولبّ، يوجد في قشرة كل كلية نحو مليون أنبوب بولي مجهري دقيق، ويعتبر كل أنبوب بولي صغير (يسمى النفرون) بمثابة وحدة لتنقية الدم. يبدأ صنع البول في النفرونات، ويتألف النفرون من عدة أجزاء لكل منها وظيفته الخاصة. يبدأ كل نفرون بحوض تجميع صغير يحيط بما يشبه الكُبيبة من الأوعية الدموية الشعرية الدقيقة المجمَّعة، وتأتي الكُبيبات من تفرعات عديدة لشريان الكلية.
صنع البول في النفرون
يرشح من الشعيرات الدموية في كل كُبيبة كمية من سوائل الدم تحتوي الماء والشوارد والسكر وبعض المواد العضوية الدقيقة التي يحملها الدم، مثل البولة وحمض البول والكرياتينين والبيليروبين. ولا تمر خلايا الدم عبر جدران الكُبيبات الكلوية الرقيقة، ولا تمر البروتينات والجزيئات الكبيرة، وذلك لأن جدران الشعيرات الدموية في الكُبيبة لا تسمح بمرور أي مواد تبلغ كتلة جزيئاتها أكثر من 40،000 دالتون.
ولكي نقدر معنى ذلك يجب أن نعلم أن كتلة الألبومين، وهو من أصغر المواد البروتينية الموجودة في الدم، تبلغ نحو 65،000 دالتون، أي أن الأنابيب الكلوية الطبيعية لا تسمح بتسرب الألبومين من الدم إلى البول. ولذلك يستطيع الأطباء تقدير كفاءة عمل الكلية في تصفية الدم بقياس مقدار تسرب الألبومين والبولة والكرياتينين في البول.
يخرج من سوائل الدم إلى الأنابيب الكلوية في كل يوم ما مقداره 200 ليتر، يُطرح منها بشكل البول ما مقداره ليترَين فقط، بينما تعيد الكليتان امتصاص 198 ليترًا وترجعها إلى الدم عن طريق الوريدَين الكلويين. هذه القياسات وحدها تدلنا على أن الكلية ليست مجرد مصفاة سلبية، بل إنها تقوم بتصفية الدم في الأنابيب البولية عن طريق عمليات حيوية معقدة.
ما هو عمل أجزاء الأنبوب البولي (النفرون) في صنع البول ؟
يتألف كل أنبوب بولي صغير (نفرون) من أجزاء هي: الكُبيبة، والأنبوب المتعرج القريب، والجزء الملتف Loop، والأنبوب المتعرج البعيد، ثم الأنبوب الجامع للبول.
يتم رشح السوائل من الدم إلى النفرون في الكُبيبات، ويقوم الأنبوب المتعرج القريب بتنظيم إعادة امتصاص الماء والصوديوم والسكر والفوسفات والكالسيوم والسيترات والبيكربونات والحموض الأمينية. تمر السوائل بعد ذلك إلى الجزء الملتف من النفرون حيث يتم تركيز البول بإعادة امتصاص أكثر الماء منه، وكذلك إعادة امتصاص أو طرح الصوديوم والكلور والبوتاسيوم (أي تنظيم طرح هذه الشوارد أو الاحتفاظ بها بحسب حاجة الجسم).
بعد ذلك, يتابع البول طريقه إلى الأنبوب المتعرج البعيد حيث يتم أيضًا إعادة امتصاص أو طرح الصوديوم والكلور والبوتاسيوم، ثم يمر البول في طريقه نحو الأنبوب الجامع للبول الذي يتلقى البول من عدد كبير من النفرونات، ويتم فيه أيضًا تنظيم توازن الماء والصوديوم والبوتاسيوم وتركيز البول.
تتجمع الأنابيب الجامعة للبول مع بعضها من كافة أجزاء قشرة الكلية لتكوّن كيسة صغيرة في جوف الكلية تسمى الحويضة. يَصدر عن حويضة كل كلية حالبٌ بشكل أنبوب دقيق طويل يبلغ قطره نحو 3 ميليمترات، وطوله نحو 30 سنتيمترًا، يمتد في الجزء الخلفي من البطن، وينتهي الحالبان في المثانة البولية، حيث يتجمع البول ريثما تتاح الفرصة المناسبة لطرحه خارج الجسم عبر الإحليل بشكل البول الذي له رائحة خاصة ولون معروف.
وهكذا نرى أن عملية صنع البول في الكلية هي عملية حيوية معقدة يتم من خلالها المحافظة على توازن الماء في الجسم، وكذلك توازن الشوارد (الصوديوم والكلور والبوتاسيوم والكالسيوم والبيكربونات ...)، والتوازن الحمضي-القلوي في الجسم.
وكذلك التخلص من نواتج بعض التفاعلات الحيوية في الجسم مثل البولة وحمض البول والكرياتينين والبيليروبين. وتعمل بعض الأدوية، خاصة مُدرّات البول، عن طريق التدخل في عملية صنع البول في الكلية بغرض توجيهها إلى طرح مزيد من الماء مثلًا، أو من أجل طرح مزيد من السكر في البول لعلاج الداء السكري من النوع الثاني.
