منذ ظهر وباء كوفيد-19 وانتشر، بدأت مراكز العالم البحثية في سباق محموم للعثور على حل لهذه الأزمة التي تواجه الكوكب. كانت الحلول المطروحة تتمثل في توفير لقاحات عالية الكفاءة تمنع العدوى أو على الأقل تقلل من المضاعفات، أو البحث عن أدوية فعالة تساهم في علاج المرض وتمنع مضاعفاته، وتقلل كذلك من الوفيات الناتجة عنه.
نجحت العديد من التجارب وأسفرت عن قبول عدة أنواع من اللقاحات للاستخدام في الكثير من دول العالم. لكن حتى تنجح اللقاحات في تحقيق أهدافها وتقليل معدلات الإصابة والمضاعفات من المرض، يجب أن يتم تلقيح غالبية المواطنين في كل دولة، وغالبية سكان الكوكب حتى لا يتحور الفيروس ويعود إلى الانتشار في مناطق العالم المختلفة.
* تساؤلات تثيرها سرعة إنتاج اللقاحات
لكن سرعة إنتاج هذه اللقاحات وتعدد أنواعها أثارا العديد من التساؤلات لدى العامة والباحثين على حد سواء، خاصة عن أمان استخدامها ومضاعفاتها قريبة وبعيدة المدى. على سبيل المثال، أثارت اللقاحات التي تعتمد على الحمض النووي الريبوزي (كلقاحي شركتي فايزر ومودرنا) تساؤلات عن احتمالات تداخل هذا الحمض النووي مع الحمض النووي للخلايا البشرية وتداعيات هذا التداخل المحتمل. لكن الباحثين طمأنوا الجميع بخصوص هذا الأمر، خاصة أن طبيعة الحمض النووي للقاح (الحمض النووي الريبوزي) تختلف عن طبيعة الحمض النووي المكون للخلايا البشرية (الحمض النووي الريبوزي منقوص الأكسجين)، وهما لا يمكن أن يتحدا سويا لتغيير الشفرة الوراثية للخلايا.* مشاكل لقاح أسترازينيكا
لكن من بين كل اللقاحات، كان لقاح أسترازينيكا الأكثر إثارة للجدل، مع تكرار الحديث عن ارتباط تناول هذا اللقاح بحدوث جلطات في أماكن مختلفة من الجسم. ليس هذا فحسب، فالجدل أثير عن التأثير المقابل أيضا (تسبب اللقاح في حدوث نقص الصفائح الدموية في الجسم، وبالتالي تسببه في حدوث النزيف). هذه الحالات التي أصبحت تشكل متلازمة (وهي مجموعة أعراض تحدث سويا، أو حالة مرضية تتميز بوجود العديد من الأعراض المرتبطة ببعضها) لا توجد معلومات كافية عنها.يُعد لقاح أكسفورد أسترازينيكا واحدا من أكثر اللقاحات الخاصة بفيروس سارس كورونا-2 انتشارا، ويعتمد اللقاح على استخدام نوع آخر من الفيروسات غير الضارة كحامل لبروتين الشوكة الخاص بفيروس سارس كورونا-2، ليدخل الأخير إلى الجسم ويبدأ جهاز المناعة في تكوين مناعة ضده. بدأت عمليات التلقيح في كبار السن باستخدام هذا اللقاح في المملكة المتحدة مع بداية عام 2021، ثم تبع ذلك استخدامه في الفئات الأصغر سناً. مع انتصاف العام، كانت أكثر من 16 مليون جرعة أولى من اللقاح قد تم توزيعها على الأشخاص الأكبر من 50 عاما، و8 ملايين جرعة أخرى للأشخاص الأصغر سنا.
لكن، وعلى الرغم من النجاح الواسع لحملة التلقيح، بدأت المشاكل تطفو على السطح، ففي مارس من هذا العام بدأت التساؤلات تظهر عن زيادة خطر الإصابة بالجلطات ونقص الصفائح الدموية في الأشخاص الذين تلقوا هذا اللقاح. أظهرت التقارير القادمة من المملكة المتحدة والنرويج وألمانيا والنمسا أن بعض الأشخاص قد تم حجزهم في المستشفيات خلال مدة تتراوح بين 5 و24 يوما بعد التلقيح، نتيجة حدوث تجلطات في أماكن غير معتادة، وكذلك بسبب مشاكل تتعلق بنقص الصفائح الدموية، واضطراب نتائج بعض التحاليل الخاصة بالتجلط. من المثير للاهتمام أن أغلب هؤلاء المرضى كانوا بصحة جيدة، ولم تكن أعمارهم كبيرة في وقت الإصابة.
* تقرير عن الحالات التي أصيبت بالتجلطات أو النزف
هذه التقارير دعت الباحثين، كما ذكرنا، إلى دراسة أول 220 حالة أصيبوا بهذه المتلازمة في المملكة المتحدة، من أجل فهم العوامل التي ترتبط بهذه المشكلة، ومحاولة الاتفاق على استراتيجية للعلاج في هذه الحالات. نتائج هذه الدراسة تم نشرها في مجلة نيو أنجلاند جورنال أوف ميديسن العريقة في شهر أكتوبر الماضي.قسم الباحثون الحالات إلى:
- حالات مؤكدة للإصابة بهذه المتلازمة.
- حالات محتملة للإصابة.
- حالات ممكنة.
- حالات مستبعدة.
أظهرت النتائج أن الغالبية الساحقة من المرضى أصيبوا بهذه المتلازمة بين 5 إلى 30 يوما بعد تناول الجرعة الأولى من اللقاح، وأن متوسط أعمار المرضى كان 48 عاما. ونسبة الرجال والنساء كانت متساوية تقريبا، وإن كان عدد النساء أكبر قليلا. هذه المضاعفات بدأت في الظهور بعد 14 يوما في المتوسط من تناول اللقاح.
قبل الإصابة، لم يكن أكثر من ثلث المرضى يعانون من أية أمراض مزمنة، وكان متوسط عدد الصفائح الدموية لديهم 47000 في الملليمتر المكعب (المعدل الطبيعي 150000 - 450000)، وكانت أوردة المخ هي أكثر الأوعية الدموية تعرضا للتجلطات (في نصف المرضى)، وأحيانا كان نزيف المخ يتبع حدوث هذه الجلطات، وهو ما ارتبط بوجه خاص بانخفاض مستوى الصفائح الدموية. بعد الأوعية الدموية للمخ، جاءت تجلطات أوردة الرجل العميقة وشرايين الرئة في المركز الثاني، ثم أوردة الكبد. قلة من المرضى أصيبوا بجلطات في القلب، وعدد أكبر بقليل أصيب بجلطات مخية. تسببت هذه المشاكل في وفاة 49 شخصا (22 بالمائة من عينة الدراسة)، حيث ارتبط حدوث الوفيات بشكل خاص بتجلطات بعض أوردة المخ، ونزيف المخ، وانخفاض مستوى الصفائح الدموية المسؤولة عن تجلط الدم، وحدوث تغيرات كبيرة في الدلالات المعملية الخاصة بحدوث التجلطات.
من خلال هذه النتائج، وجد الباحثون أنه على الرغم من أن مشكلة التجلطات ونقص الصفائح الناتجة عن اللقاح نادرة الحدوث، فإن معدلات الوفيات الناتجة عنها ليست قليلة، خاصة في صغار السن. لم يكن الجنس عاملاً مؤثراً في حدوث هذه المشكلة، ولم يرتبط حدوثها بوضوح بوجود أمراض معينة. لاحظ الباحثون أيضا أن التجلطات التي تحدث متعددة، حيث تشمل الأوعية الدموية (الأوردة والشرايين) سويا في عدة مناطق من الجسم، وهو ما يتسبب في المضاعفات المصاحبة لهذه المتلازمة.
من المؤسف، أن أيا من الخيارات العلاجية المعروفة لم تثبت فاعليتها في علاج هذه المشكلة، لكن الباحثين في هذه الدراسة نصحوا باستخدام ما يسمى بتبادل البلازما (وهي عملية تتم فيها فلترة دم المريض لإزالة بعض المواد الضارة، حيث تتم إعادة البلازما والدم إلى الجسم بعد إزالة هذه المواد من خلال جهاز مخصص لذلك). هذا الخيار نصح به الباحثون خصيصا في الحالات التي يحدث فيها انخفاض كبير في مستوى الصفائح الدموية وتجلطات منتشرة في مناطق الجسم المختلفة، حيث ساعد هذا الخيار العلاجي على رفع مستوى البقاء علي قيد الحياة إلى 90 بالمائة في المرضى الذين تم علاجهم باستخدامه.