في يوم الثامن مِنْ مايو سنة 1900 استقل عالِم الأحياء ويليام بيتسون William Bateson (1861-1926) القطار ذاهباً لإلقاء محاضرة في المؤتمر السنوي للجمعية الملكية للحدائق والبستَنَة الذي عُقد آنذاك بمدينة ليفربول. ارتمى بيتسون على مقعده في القطار المسافر بين كامبريدج ولندن وهو يحمل بحثاً علمياً كان قد نُشر منذ أكثر مِنْ خمس وثلاثين سنة، في سنة 1865 على وجه التحديد. وكعادته عند تنقله في القطار بين مدينة وأخرى، قام بيتسون هذه المرة بقراءة ذلك البحث العلمي الذي نُشر في مجلة جمعية علوم الأحياء في مدينة برون النمساوية بعنوان: "تجارب في تهجين النبات" لباحثٍ نمساوي غير معروف اسمه غريغور يوهان ماندِل Gregor Johann Mendel (1822-1884).
وَصَف ماندِل في ذلك البحث نتائج أبحاثه في تهجين نبات البازلاء في ثمان وأربعين صفحة. وما أن انتهى بيتسون من قراءة البحث حتى قفز مِنْ مقعده، وكاد أن يفقد توازنه ويسقط إلى الأرض. كان بيتسون قد نَشر كثيراً من الأبحاث عن انتقال الصفات بين الأجيال المتتالية عند الحيوانات، واقترب كثيراً من تكوين رأيّ خاص في كيفية انتقال الصفات والسِمات الجسمية مِنْ جيل إلى جيل، وكان رأيّه يختلف جذرياً عن الآراء التي كانت سائدة في ذلك العصر بقيادة عالِم الأحياء الأشهر تشارلز داروين Charles Darwin (1809-1882)، لكنّ بيتسون فوجئ بأنّ الباحث النمساوي المغمور قد سبَقَه إلى ذلك الاكتشاف المهم بأكثر من خمس وثلاثين سنة!
الأب غريغور يوهان ماندِل Gregor Johann Mendel (1822-1884) رائد عِلم الوراثة
كيف تنتقل صفات الجسم بين الأجيال؟
عرف الأطباء والعلماء منذ أقدم العصور أنّ صفات البشر والحيوانات والنباتات تنتقل بين الأجيال عند التوالد والتزاوج، وأنّ نوعاً مِنَ "المزج" يحدث عند التزاوج بحيث تمتزج صفات الوالدين وتنتقل إلى الأجيال التالية بشكل خلطة أو مزيج عشوائي مِنْ صفاتهما. واعتقدوا مثلاً بأنه إذا تزوج رجل طويل بامرأة قصيرة يكون طول الأولاد متوسطاً بينهما، وبالمثل يمكن أنْ تنتقل صفاتهما الأخرى مثل لون الجلد ولون الشعر والعيون وبُنية الجسم بشكل عام. وهذا يفسِّر الشبه الخفي بين الأولاد والوالدين، والسِمات العامة التي تتسم بها أُسر وعائلات معروفة، بل ويمكن أنْ تشمل هذه الصفات قبائل أو شعوباً كاملة، فعلى سبيل المثال يُعرف سكان الصين وشرق آسيا بسِماتٍ مشتركة تميزهم عن شعوب أفريقيا وأوروبا.
تُروى قصص كثيرة عن الماهرين في "عِلم الفِراسَة" مِنَ العرب الذين كانوا يستطيعون معرفة الأصول القَبَلية للآخرين بمجرد النظر إلى وجوههم وأجسامهم. لوحظ انتقال الصفات الجسدية والسِمات العامة في تهجين الحيوانات والنباتات على مر القرون، واعتمد المزارعون على ثبات انتقال هذه السِمات العامة للحصول بالتوليد والتهجين على أبقار حلوبة، أو كثيرة اللحم مثلاً، وعلى نباتات لذيذة الثمار ومقاوِمة للأمراض النباتية، أو مقاوِمة للظروف المناخية الصعبة مثل الحرارة والجفاف.
ولكن المشكلة في مفهوم انتقال الصفات بين الأجيال حسب نظرية "المَزج" هي أنّ استمرار العملية وفق هذه النظرية سيصل بنا إلى أنّ الأجيال المتتالية ستميل تدريجياً نحو التقارب والتشابه في الصفات الجسمية العامة، وسيزول التنوع والاختلاف بين الأفراد ويصبحون كأنهم نسخٌ متماثلة، بينما يَظهر جلياً في الواقع العملي أنّ التنوع والتباين هو القاعدة السائدة في عالَم الإنسان والحيوان والنبات! كما أنّ نظرية المزج في توارث الصفات الجسمية العامة لا تفسّر الظهور المفاجئ لصفاتٍ جديدة لمْ تكن واضحة عند الوالدين، مثل ظهور الشعر الأشقر أو لون الجلد الأبيض، أو العيون الزرقاء في نسل أبوين ليس لدى أي منهما مثل هذه الصفات! قد يتذكر بعض الأقارب وجود بعض هذه الصفات لدى الأجداد، أو قد تكون هذه الصفات جديدة تماماً في تلك العائلة. فكيف يمكن تفسير مثل هذه الظواهر التي تَحدث عملياً إذا كان توريث الصفات يتم وفق نوعٍ مِنَ المَزج الوسَطِيّ بين صفات الوالدين؟!
نظرية داروين في التَخَلُّق العام Pangenesis
طَرح عالِم الأحياء الإنكليزي الشهير داروين فرضية مبدئية لتفسير انتقال الصفات الوراثية عبر الأجيال، وذلك في كتابه: "التنوع في الحيوانات والنباتات المُسْتأنَسَة" الذي نُشر سنة 1868. تشبه هذه الفرضية وجهة نظر أبو الطب اليوناني إيبوقراط في انتقال الصفات بين الأجيال. ويمكن تلخيص هذه الفرضية في تصور داروين بوجود جُسَيمات صغيرة أَطلَق عليها اسم Gemmules تحمل بداخلها "ملخَّص" جميع صفات الجسم التي يمكن أنْ تنتقل مِنَ الوالدين إلى الأولاد، ويتركز وجود هذه الجُسَيمات في خلايا الأعضاء التناسلية.
وتتلخّص في هذه الجُسَيمات جميع الصفات العامة للجسم الذي توجد فيه، ومن هنا جاءت فكرة مشاركة "جميع أو عموم" أجزاء الجسم في تشكّل هذه الجُسَيمات. تنتقل هذه الجُسَيمات مِنَ الوالدين إلى الأولاد خلال عملية التزاوج، وتتشكّل أو تَتخَلَّق جميع صفات أجسام الأولاد حسب المزيج الذي يتألف مِنْ خلط هذه الجُسَيمات. ومن هنا جاء اسم الفرضية في التَخلُّق العام. تدل هذه الفرضية على وجود نوع مِنَ الاستمرار في سياق انتقال الصفات الوراثية، وكأنها سيّالة مستمرة مِنَ الصفات التي تختلط وتمتزج وتظهر عبر الأجيال المتتالية مِنْ خلال التزاوج. أظهر العلم فيما بعد عدم صحة هذه النظرية.
الأب ماندِل
ولِد يوهان ماندِل لعائلة مِنْ أصول ألمانية في منطقة كانت في الإمبراطورية النمساوية-الهنغارية، وتقع هذه الأيام في جمهورية التشيك. كانت عائلته مسيحية ملتزمة، وكان والده وأجداده يعملون في الزراعة. نشأ ماندِل الشاب في هذه البيئة الزراعية وعمل في تربية النحل. دَخل في سلك الرهبانية الأخوية الأوغسطينية حيث مُنِحَ اسم غريغور، وتابع دراساته اللاهوتية. كما دَرَس الفلسفة وعلوم الأحياء والزراعة والفيزياء في جامعة فيينا. عاد إلى دير سانت توماس في مدينة برون النمساوية لتدريس الفيزياء فيه، ثم أصبح رئيساً لذلك الدير سنة 1867.
وضِعتْ تحت تصرف ماندِل حديقة تجريبية صغيرة مساحتها هكتارَين منذ سنة 1854 ليقوم فيها ببعض الأبحاث والدراسات الزراعية. بعد تجارب قليلة ركَّز ماندِل أبحاثَه على مراقبة انتقال سبعِ صفاتٍ في نبات البازلاء على مر أجيال كثيرة متتالية قام فيها بتلقيح الأزهار يدوياً جيلاً بعد جيل. راقَبَ ماندِل شكل البذور ولونها ولون الأزهار وتوزيعها وطول النبتة وشكل قرون البازلاء ولونها. في الفترة بين 1856 – 1863، زرع ماندِل حوالي 29،000 نبتة، وتابَعَ انتقال هذه الصفات بين أفراد أجيالها المتتالية. سجَّل ملاحظاته بدقة، وكتب أرقامه بحرص أستاذ في الرياضيات.
قدّم ماندِل نتائج أبحاثه هذه في محاضرتين ألقاهما في 8/2/1865 وفي 8/3/1865 أمام جمعية علوم الأحياء في مدينة برون النمساوية. فُهِمَتْ هذه الأبحاث على أنها دراسات في تهجين النباتات لا أكثر، وحتى بعدما نُشِرتْ نتائجه سنة 1865 باللغة الألمانية، لمْ تُحدِث أي ضجة علمية هامة، ولمْ يتناقلها علماء الأحياء، ولمْ تصل لأسماع مُعاصِرِه الشهير داروين الذي كان يبحث جاهداً عن تفسير علمي يُبيِّن طريقة انتقال الصفات الوراثية بين الأجيال لدعم نظريته في نشوء وتطور الأنواع.
أبحاث في تهجين نبات البازلاء
اختار ماندِل نبات البازلاء بسبب سهولة زراعته ومراقبته، وتطوير سلالات نقية منه يستطيع مَنعها مِنَ التزاوج العشوائي، وأنْ يَتحكَّم في تزاوجها بشكل يدوي دقيق. لاحظ ماندِل في الصفات التي راقبها أنّ في كلٍ منها نوعاً مِنَ السيطرة، ففي الجيل الأول تسود الصفات القاهرة المسيطِرة في جميع النباتات، فمثلاً عندما زاوج بين نبتَتين إحداهما ذات أزهار بيضاء والثانية ذات أزهار أرجوانية، كانت أزهار الجيل الثاني كلها أرجوانية اللون.
وعندما زاوج بين أفراد هذا الجيل الثاني، ظَهَرت الأزهار البيضاء ثانية في ربع النباتات، بينما كانت بقية النباتات أرجوانية الأزهار. وظَهَرتْ هذه النسبة 3:1 في الصفات المُسَيطِرة الأخرى أيضاً بشكل متكرر مدهش. كما لاحظ ماندِل أنّ انتقال الصفات كان مستقلاً تماماً عن بعضها بعضاً عبر الأجيال المتتالية، فلا علاقة للون الأزهار مع توزعها، أو مع طول النباتات أو شكل بذورها! وكأنما تنتقل الصفات الوراثية في وحدات مستقلة وليس في سيالة مستمرة تختلط فيها الصفات وتمتزج في الأجيال المتتالية. لو عرف داروين آنذاك نتائج دراسات ماندِل، لوجد فيها إجابة على السؤال الذي ظلّ يقلقه لتفسير نظريته في تطور الأنواع وهو: كيف تحتفظ الصفات المختلفة باستقلاليتها ونقائها دون أنْ تمتزج وتختلط وتزول عندما تنتقل بين الأجيال المتتالية؟
الصفات السبع التي درسها ماندِل في نبات البازلاء
ماذا حدث لأبحاث ماندِل؟
علَّقَ أحد الكتّاب على تلك الفترة قائلاً: " لمْ يفهمه أحد. مرَّت خمس وثلاثون سنة، ونما العشب الأخضر على قبر المكتشِف قبل أنْ يُدرك العلماءُ أهمية تلك اللحظة التاريخية". اكتُشِفتْ أبحاث ماندِل مِنْ جديد سنة 1900 بفضل خلافات علمية بين بعض الرواد من علماء النبات.
اقترح العالِم كورينز بعد ذلك أنّ كافة مُنتِجات "أو مُصَنِّعات" صفات الكائن الحي موجودة في نواة كل خلية من خلايا جسمه، بحيث تنقل كل "مُنتِجَة" أو "مُصَنِّعَة" في نواة الخليّة صفةً معينة واحدة مِنْ صفات الجسم، ويتم نقلها وإنتاجها والتعبير عنها في الأولاد بحسب كونها صفة مُسَيطِرة أو مَقهورَة. وبذلك فَسَّرَ انتقال الصفات الوراثية بشكل وحدات مستقلة منفصلة.
أما صاحبنا الأب ماندِل فلمْ تلق أبحاثُه اهتمامَ علماء الأحياء في عصره، وحتى عندما أُعيد اكتشافها سنة 1900 شكّك كثير منهم بأهميتها وريادتها. وبالنسبة إلى عالِم الأحياء الإنكليزي ويليام بيتسون الذي قفز في مقعده في القطار عند قراءة أبحاث ماندِل، فقد كان سعيداً باكتشاف هذه الأبحاث، وأعاد كتابة محاضرته. كان بيتسون معارِضاً لنظرية داروين في الانتقال التدريجي المستمر للصفات الوراثية، ووَجد في أبحاث ماندِل التي دَرَسَتْ تهجين النباتات تأييداً لأفكاره ونتائج دراساته في تهجين الحيوانات. وبعد قراءة أبحاث ماندِل، أَعلَن ولادةَ عِلمٍ جديد أَطلَق عليه سنة 1905 اسم: عِلم الوراثة.
المصدر:
كتاب "قصة الوراثة، كيف كشفها رجالها" للدكتور عامر شيخوني