الغالبية العظمى من الآباء والأمهات يحبون أطفالهم، ويرغبون في أن يقدموا لهم كل خير، ومن أجل ذلك يلهثون ليل نهار لتلبية مطالب واحتياجات أطفالهم، والبعض يحرص على تعلم ما يمكن أن يساعده في بناء ارتباط قوي مع أطفاله، ورغم هذا نلاحظ أن جهود الوالدين في كثير من الأحيان لا تؤتي ثمارها، وتكون العلاقة بين الأطفال ووالديهم علاقة هشة، ويتجنب الأطفال والديهم، أو يغضبوا منهم غضباً شديداً لفشلهم في تحقيق احتياجات الطفولة.. فأين الخلل؟ وما الذي يحتاحه الأطفال فعلياً من والديهم؟
هذا السؤال وغيره من الأسئلة المتعلقة بموضوع ارتباط الأطفال بوالديهم شغلت جون بولبي الذي حاول أن يجد إجابات من خلال دراسة ارتباط الأطفال بوالديهم، ووجد من خلال دراسته أن نمط تعلق الأطفال بمقدم الرعاية يعتمد على قرب مقدم الرعاية وحضوره وإحساسه واستجابته ويقظته للطفل ولاحتياجاته.
ونتاج هذا الجهد قدّم بولبي للعلم نظريته الشهيرة التي عرفت باسم نظرية التعلق (attachment theory)، وكان لإسهامه الفضل الكبير على علم النمو، وعلى الكثير من الأطفال، حيث غيّرت مستشفيات العالم أنظمتها وسمحت للآباء بمرافقة أطفالهم المرضى المحجوزين فيها، وذلك بعد أن كان هذا ممنوعاً تماماً، إذ وجد بولبي أن لهذا الفصل ضرراً شديداً على نفسية الطفل.
وبناء على سلوك الطفل وارتباطه بمقدم الرعاية الأولي (أو كما سماها بولبي شخصية التعلق، وهي الأم في معظم الأحوال)، وقسم بولبي أنماط تعلق الطفل لـ:
- التعلق الآمن Secure attachment
- التعلق القلق Anxious attachment
- التعلق المتجنب Avoidant attachment
بدايات نظرية التعلق
تم تطوير نظرية التعلق (ِAttachment Theory) في الأصل من قبل جون بولبي John Bowlby (1990-1907)، وهو محلل نفسي بريطاني كان يحاول فهم الضيق الشديد الذي يعاني منه الأطفال الذين انفصلوا عن والديهم.تعلق الأطفال بمقدمي الرعاية
لاحظ بولبي أن الأطفال المنفصلين عن ذويهم تتغير سلوكياتهم (حيث يبكون، ويتشبثون، ويبحثون بشكل محموم) لمنع الانفصال عن والديهم، أو لإعادة تأسيس القرب من أحد الوالدين المفقودين.افترض بولبي أن سلوكيات التعلق هذه، مثل البكاء والبحث، كانت استجابات تكيفية للانفصال عن مقدم الرعاية الأساسي (الأم أو من يقوم مقامها)، والذي يعتبر، حسب بولبي، شخصية التعلق الأولي للطفل، وهو الشخص الذي يقدم الدعم والحماية والرعاية، ونظرًا لأن الأطفال الرضع لا يمكنهم إطعام أو حماية أنفسهم فهم يعتمدون على رعاية وحماية البالغين "الأكبر سنًا والأكثر حكمة".
وأشار بولبي إلى أنه على مدار التاريخ التطوري، فإن الأطفال الذين كانوا قادرين على الحفاظ على قرب من يراعيهم عبر سلوكيات التعلق سيكونون أكثر عرضة للبقاء على قيد الحياة، ووفقًا لبولبي، فإن نظامًا تحفيزيًا، سماه نظام سلوك التعلق، تم "تصميمه" تدريجيًا عن طريق الانتقاء الطبيعي لتنظيم القرب من شخصية التعلق.
أشار بولبي إلى أنّ الديناميكيات الأساسية الموصوفة أعلاه هي الديناميكيات المعيارية لنظام التعلق السلوكي، ولكن هناك اختلافات فردية في الطريقة التي يقيم بها الأطفال إمكانية الوصول إلى شخص التعلق الأساسي، وكيف ينظمون سلوك التعلق الخاص بهم استجابةً للتهديدات.
ومع ذلك، لم يتم التعبير عن الفهم الرسمي لهذه الفروق الفردية إلا بعد أن بدأت زميلته ماري أينسوورث Ainsworth (1913 - 1999) في دراسة الفصل بين الأطفال والرضع ومقدم الرعاية بشكل منهجي، وطورت أينسوورث وطلابها تقنية تسمى الموقف الغريب أو strange situation، لدراسة ارتباط الطفل بالوالد.
في هذا الموقف الغريب، يتم إحضار الأطفال الرضع البالغين من العمر 12 شهرًا وأولياء أمورهم إلى المختبر، ويتم فصلهم بشكل منهجي عن بعضهم البعض ولم شملهم مع بعضهم البعض.
بعد الانفصال عن مقدم الرعاية وإعادة الارتباط، يتعامل بعض الأطفال غير الآمنين مع والديهم، ولكن مع تناقض ومقاومة، بينما ينسحب آخرون من والديهم، ويستخدم الأطفال هذه السلوكيات لتقليل المشاعر المرتبطة بالانفصال وإعادة بالارتباط.
أحد الأسئلة الكبيرة هي ما إذا كان الأطفال الذين ينسحبون من والديهم - الأطفال المتجنبون - هم حقًا أقل حزنًا، أو ما إذا كان سلوكهم الدفاعي هو غطاء لمشاعرهم الحقيقية. وتشير الأبحاث التي درست القدرة على الانتباه للأطفال، ومعدل ضربات القلب، أو مستويات هرمون التوتر إلى أن الأطفال الذين يتجنبون القلق يشعرون بالضيق بسبب الانفصال على الرغم من حقيقة أنهم يستخدمون طريقة التجنب.
الخلاصة
وأشار بولبي إلى أنه على مدار التاريخ التطوري، فإن الأطفال الذين كانوا قادرين على الحفاظ على قرب من يراعيهم عبر سلوكيات التعلق سيكونون أكثر عرضة للبقاء على قيد الحياة، ووفقًا لبولبي، فإن نظامًا تحفيزيًا، سماه نظام سلوك التعلق، تم "تصميمه" تدريجيًا عن طريق الانتقاء الطبيعي لتنظيم القرب من شخصية التعلق.
نظام التعلق بداخل الطفل "يسأل" السؤال الأساسي الآتي:
- هل شخصية التعلق (مقدم الرعاية) قريبة ويسهل الوصول إليها ويقظة ومستجيبة؟
- إذا رأى الطفل أن الإجابة عن هذا السؤال هي "نعم"، فإنه يشعر بأنه محبوب وآمن ويستطيع أن يثق بالعالم والناس، مما يجعله مطمئناً، ويبدأ استكشاف بيئته، ويلعب مع الآخرين، ويكون اجتماعيًا.
- أما إذا رأى الطفل أن الإجابة عن هذا السؤال هي "لا"، فإن الطفل يعاني من القلق، ومن المرجح أن يُظهر سلوكيات التعلق، بدءًا من البحث البصري، إلى المتابعة النشطة والإشارات الصوتية من جهة أخرى، وتستمر هذه السلوكيات حتى يتمكن الطفل من إعادة إنشاء مستوى مرغوب فيه من القرب الجسدي أو النفسي من رمز التعلق، أما إذا استحال التواصل مع رمز التعلق الأولي كما قد يحدث في سياق الانفصال أو الفقد المطول، ففي مثل هذه الحالات، اعتقد بولبي أن هؤلاء الأطفال الصغار يعانون من اليأس العميق والاكتئاب.
هل شخص التعلق الأساسي موجود وحاضر ومركز ومستجيب؟ | نعم | يشعر أنه آمن ومحبوب ويشعر بالثقة | يلعب وينطلق ويبتسم ويكون اجتماعياً |
لا | قلق وتوتر الانفصال | تنشيط تفاعلات التعلق بدءاً من البحث عن رمز التعلق إلى الاعتراض الشديد والالتصاق |
الفروق الفردية تلعب دوراً في أنماط التعلق
أشار بولبي إلى أنّ الديناميكيات الأساسية الموصوفة أعلاه هي الديناميكيات المعيارية لنظام التعلق السلوكي، ولكن هناك اختلافات فردية في الطريقة التي يقيم بها الأطفال إمكانية الوصول إلى شخص التعلق الأساسي، وكيف ينظمون سلوك التعلق الخاص بهم استجابةً للتهديدات.
جهود أينسوورث وتجربة الموقف الغريب (Strange situation)
ومع ذلك، لم يتم التعبير عن الفهم الرسمي لهذه الفروق الفردية إلا بعد أن بدأت زميلته ماري أينسوورث Ainsworth (1913 - 1999) في دراسة الفصل بين الأطفال والرضع ومقدم الرعاية بشكل منهجي، وطورت أينسوورث وطلابها تقنية تسمى الموقف الغريب أو strange situation، لدراسة ارتباط الطفل بالوالد. في هذا الموقف الغريب، يتم إحضار الأطفال الرضع البالغين من العمر 12 شهرًا وأولياء أمورهم إلى المختبر، ويتم فصلهم بشكل منهجي عن بعضهم البعض ولم شملهم مع بعضهم البعض.
- وأثناء الدراسة وجد أن حوالي 60% من الأطفال يتصرفون بالطريقة التي تشير إليها نظرية بولبي "المعيارية"، فهم يشعرون بالضيق عندما يغادر الوالد الغرفة، وعندما يعود، فإنهم يبحثون بنشاط عن الوالد ويسهل عليهم التواصل مع الوالد. وغالبًا ما يُطلق على الأطفال الذين يظهرون هذا النمط من السلوك أنهم آمنون securley attached.
- يعاني الأطفال الآخرون (حوالي 20% أو أقل) من عدم الراحة في البداية، وعند الانفصال يصابون بضيق شديد، والأهم من ذلك، عند لم شملهم مع والديهم، يواجه هؤلاء الأطفال صعوبة في تهدئتهم، وغالبًا ما يظهرون سلوكيات متضاربة تشير إلى أنهم يريدون الشعور بالراحة، ولكنهم يريدون أيضًا "معاقبة" الوالد على المغادرة، وغالبًا ما يطلق على هؤلاء الأطفال القلقون anxious.
- يُطلق على النمط الثالث من التعلق الذي وثقته أينسوورث وزملاؤها اسم "المتجنب avoidant"، والأطفال المتجنبون (حوالي 20%) لا يبدون حزينين للغاية بسبب الانفصال، وعند لم شملهم، تجنبوا الاتصال بوالديهم، وأحيانًا يحولون انتباههم إلى لعب أشياء على أرضية المختبر.
كان عمل أينسوورث مهمًا لثلاثة أسباب على الأقل:
- أولاً، قدمت واحداً من أول العروض التجريبية لكيفية تشكيل سلوك التعلق في كل من السياقات الآمنة والمخيفة.
- ثانيًا، قدمت أول تصنيف تجريبي للفروق الفردية في أنماط التعلق بالرضع، ووفقًا لأبحاثها، توجد ثلاثة أنواع على الأقل من الأطفال:
- الآمنون في علاقتهم بوالديهم.
- القلقون anxious.
- المتجنبون avoidant.
- أخيرًا، أوضحت أن هذه الفروق الفردية كانت مرتبطة بالتفاعلات بين الوالدين والرضع في المنزل خلال السنة الأولى من الحياة:
- الأطفال الذين يبدون آمنين يميلون إلى أن يكون لديهم آباء يستجيبون لاحتياجاتهم.
- الأطفال الذين يبدون غير آمنين (سواء القلقون أو المتجنبون) غالبًا ما يكون آباؤهم غير حساسين لاحتياجاتهم، أو غير متسقين أو رافضين في الرعاية التي يقدمونها.
هل استراتيجيات التجنب تخفف قلق الطفل؟
وفقًا لنظرية التعلق، يختلف الأطفال في أنواع الاستراتيجيات التي يستخدمونها لتنظيم القلق المرتبط بالتعلق.بعد الانفصال عن مقدم الرعاية وإعادة الارتباط، يتعامل بعض الأطفال غير الآمنين مع والديهم، ولكن مع تناقض ومقاومة، بينما ينسحب آخرون من والديهم، ويستخدم الأطفال هذه السلوكيات لتقليل المشاعر المرتبطة بالانفصال وإعادة بالارتباط.
أحد الأسئلة الكبيرة هي ما إذا كان الأطفال الذين ينسحبون من والديهم - الأطفال المتجنبون - هم حقًا أقل حزنًا، أو ما إذا كان سلوكهم الدفاعي هو غطاء لمشاعرهم الحقيقية. وتشير الأبحاث التي درست القدرة على الانتباه للأطفال، ومعدل ضربات القلب، أو مستويات هرمون التوتر إلى أن الأطفال الذين يتجنبون القلق يشعرون بالضيق بسبب الانفصال على الرغم من حقيقة أنهم يستخدمون طريقة التجنب.
الخلاصة
- وجود مقدم رعاية منتبه ويقظ ومستجيب لاحتياجات الطفل هو أمر ضروري لنمو الطفل النفسي، وتوافر مقدم الرعاية بهذه الصفات يسمح للطفل بالارتباط الأمن.
- الطفل الذي لا يستطيع تكوين علاقة ارتباط آمنة مع مقدم الرعاية يطور نمط تعلق غير آمن، والذي يمكن أن يكون نمط تعلق قلق أو نمط تعلق تجنبي.