أتذكر تلك الأيام التي كانت تذهب بي أمي، عندما كنت صغيراً، إلى عيادة طبيب الأسنان. كنت وقتها أشعر بالآلام في أسناني وفمي حتى قبل أن يمسني الطبيب. وكنت أنتظر تلك اللحظة الاستثنائية التي يضع فيها الطبيب مادة ما على اللثة (إما بواسطة قطعة من القطن أو بالرش)، أشعر بعدها بالتخدير في نفس المكان، بعدها يبدأ بحقني في نفس الموضع الذي تم تخديره، لأبدأ بعدها في الشعور بتخدير كامل في فمي لمدة نصف ساعة أو أكثر.
لم أعرف وقتها أي شيء عن تلك المادة السحرية، التي لا تجعلني أشعر بأي ألم عند طبيب الأسنان، ومرت الأيام والسنوات، ووجدت نفسي أعمل في أحد المشاريع البحثية مع هذه المادة!
تُعرف هذه المادة بالليدوكين (Lidocaine)، وتنتمي لمجموعة كيميائية دوائية يُطلق عليها "المخدرات الموضعية"، وتم اكتشاف هذه المادة في عام 1942 بواسطة اثنين من علماء الكيمياء السويديين (Nils Löfgren, Bengt Lundqvist).
يستخدم " الليدوكين" منذ عام 1948 وحتى وقتنا هذا كمخدر موضعي يوقف إحساس المريض بالألم في كثير من المعالجات الطبية، كما يستخدم أيضاً كمضاد لاضطرابات نبضات القلب.
كيف يعمل الليدوكين ؟
كما ذكرت في المقال السابق، يبدأ إحساس الإنسان بالألم عندما تُستثار القنوات الأيونية، التي تشعر بتغير الضغط على غشاء الخلية؛ فتقوم تلك القنوات بفتح أبوابها لمرور الأيونات الموجبة إلى داخل الخلية.
تقوم الأيونات الموجبة بتغيير الاستقطاب الكهربي حول غشاء الخلية؛ فيصبح الجزء الداخلي لهذا الغشاء موجباً بعد أن كان سالباً.
يؤدي هذا التغير في الاستقطاب إلى إثارة قنوات الصوديوم ذات الحساسية لتغير الاستقطاب، والتي تشعر بأي تغير بفرق الجهد حول غشاء الخلية، فتقوم بتشفير هذه المعلومة (الألم في هذه الحالة) على شكل نبضات كهربية تُرسل إلى المخ لكي يتخذ القرار المناسب.
يعمل جزيء الليدوكين على سد قناة الصوديوم الأيونية تماماً، ومنع تشفير وبعث أية إشارة إلى المخ تخبره بوجود الألم، إذا تخيلنا قناة الصوديوم الأيونية كباب كهربائي يعمل ذاتياً بمجرد وقوف شخص أمامه، فإن جزيء الليدوكين ينتظر حتى يفتح هذا الباب ثم يقوم باحتلال الفراغ الناتج عن فتح الباب وبالتالي منع مرور أي شيء.
من أهم مميزات الليدوكين أن انجذابه لقناة الصوديوم يزداد كلما ازداد تردد عمل هذه القناة، أي أنه كلما زاد عدد مرات فتح أبواب قناة الصوديوم، وهو ما يحدث في أثناء الشعور بالألم، كلما ازدادت الألفة (Affinity) ما بين الليدوكين وما بين قناة الصوديوم.
ما هي الاستخدامات الأخرى لمخدر الليدوكين ؟
لنفس السبب وبنفس آلية العمل، يُستخدم الليدوكين في علاج أمراض أخرى كاضطرابات نبضات القلب، وذلك في الحالات التي تتميز بطول فترة الانقباض، فعندما يرتبط جزيء الليدوكين ببعض قنوات الصوديوم الأيونية الموجودة في القلب، يقوم بوقف عملها لبعض الوقت كما ذكرت سابقاً، مما يؤدي إلى عودة النبض إلى طبيعته.
توجد مركبات كيميائية أخرى تنتمي إلى عائلة "المخدرات الموضعية" كالبروكين (Procaine ) والبريلوكين (Prelocaine)، ولكن يظل الليدوكين هو النجم الأول في هذه العائلة نظراً لفاعليته، وأيضاً لقلة آثاره الجانبية، مقارنة بهذه المركبات الأخرى.