لماذا يصاب بعض الأطفال بالحزن أو الانعزال أو الشعور بعدم الأمان أو الغضب، بينما يصبح الآخرون سعداء وفضوليين وعاطفيين وواثقين من أنفسهم؟
اجتهد علماء نمو الطفل في البحث عن إجابة لهذا السؤال شديد الأهمية، ومن هؤلاء جون بولبي الذي أوضح في نظريته (نظرية التعلق) أهمية أن يمثل مقدم الرعاية، سواء كان الأم أو الأب أو من يقوم مقامهما، مصدر أو قاعدة أمان للطفل (secure base)، وذلك من خلال حرص الوالدين على جودة الاتصال العاطفي مع أطفالهم، أو ما يعرف بالتناغم بين الوالدين والطفل (Parental attuenment).
ورغم احتياجنا للتناغم في اتصالنا العاطفي مع أطفالنا، إلا أنه لا أحد يعلمنا أو يدربنا على لعب هذا الدور الهام والمحوري بشكل صحيح.. وكلمة السر في هذا الأمر هي "الوالدية المتناغمة".
يبدأ التناغم والتواصل العاطفي منذ الولادة
بمجرد ولادة الرضيع، يبدأ التواصل العاطفي مع الأم أو من تحل محلها، وتاريخيًا، كان يُعتقد أن الأطفال ليس لديهم مشاعر وأنهم ليسوا حساسين لما يحيط بهم، لأنهم لا يستطيعون الكلام. لكننا نعلم الآن أن العكس هو الصحيح، وأن البالغين والرضع مرتبطون بشكل لا ينفصم ويتواصلون باستمرار من خلال عواطفهم، وتحدد كيفية استجابة الوالدين لطفلهما طبيعة المشاعر التي سيختبرها الطفل.علاوة على ذلك، فإن الطريقة التي تلعب بها هذه التفاعلات تؤثر بشكل كبير على كيفية تصرف الرضع تجاه الآخرين أثناء نموهم في مرحلة الطفولة والبلوغ.
معظم هذا التواصل هو في الواقع غير لفظي، وحتى بين البالغين، يتواصل البشر في المقام الأول بدون كلمات، حيث تقوم أعمق مستويات دماغنا بتقييم نبرة الصوت وتعبيرات الوجه والنظرة ووضعية الجسم، وتظل الكلمات أقل أهمية.. فما تقوله بوجهك وتعابير جسمك أهم ألف مرة مما تقوله بلسانك.
كيف نحقق التناغم؟
في البدء.. من المهم أن تكون لطيفا
بغض النظر عن عمرنا، فإنه عندما يكون التواصل غير اللفظي واللفظي إيجابيًا ومحترمًا، يستجيب جسم الإنسان بهدوء، وفي هذه الحالة، يمكننا التواصل بشكل إيجابي مع الآخرين.أما عندما يكون الاتصال قاسياً أو متوتراً أو مؤذياً أو مهدداً أو رافضاً أو مهيناً، فإن الجهاز العصبي يندفع نحو القتال/الهروب/التجمد، وتنعدم القدرة على التواصل مع الآخرين عند الشعور بالخطر.
في حين أن الأطفال من جميع الأعمار يشبهون الإسفنج الذي يمتص البيئة بحواسهم الخمس، فإن الجهاز العصبي للرضيع يكون أكثر حساسية، حيث يستجيب الدماغ - العقل - الجسد، عاطفياً برسالتين أساسيتين:
- أنت آمن.
- أو أنك في خطر.
وكل ما يراه الرضيع ويسمعه ويشعر به ويتذوقه ويلمسه سيؤثر عليه.
وهذا يتطلب من الآباء مراقبة عواطفهم وردود أفعالهم من أجل مصلحة نمو أطفالهم، مما ييسر إنشاء شخص بالغ في المستقبل يتمتع بأفضل صحة عاطفية ممكنة، وهذا ليس بالأمر السهل دائمًا، خاصة في العائلات المزدحمة، وفي ظل نمط حياتنا اللاهث.
توصيات لتناغم متصل
ومن أجل تحقيق هذه الغاية النبيلة يحتاج الآباء إلى أمرين:- الحفاظ على علاقة عاطفية تتسم بالتناغم والقبول لطفلهم، بغض النظر عن سلوك الطفل. ويعني التناغم أن تكون للوالدين استجابة تجاه الاحتياجات والحالات المزاجية العاطفية لأطفالهم، والوالد المتناغم سوف يستجيب بلغة وسلوكيات مناسبة بناءً على الحالة العاطفية للطفل، ويحتاج الطفل أن يصدق أن أمه أو أباه بجانبه، وأنهما يشعران بما يشعر به، ومن التقنيات اللطيفة والفعالة في ذلك أن يلاحظ الوالدان تعبيرات وجه الطفل، وحركات جسمه، وتعبيراته الصوتية، وأن يقلداها ليشعرا بأحاسيسه، ويوصلا له رسالة مفادها نحن نشعر بك.. وهذه التقنية تسمى عكس الصورة أو mirroring.
- عندما يحدث خطأ في التناغم (misattuenment) يؤدي لكسر مؤقت في الاتصال (rupture)، وهو ما سيحدث مراراً بالتأكيد، من المهم بنفس القدر أن يعمل الوالدان أو مقدم الرعاية على إصلاح التمزق واستعادة الاتصال العاطفي الذي يشعر الطفل بالأمان والهدوء، وعلينا أن نفعل ذلك من خلال التعاطف، والدفء، والمحبة، والقبول، والفضول، واللعب.
نموذج عملي للتناغم العاطفي:
لتوضيح أهمية التناغم العاطفي، سنتخيل سيناريوهين لأم ورضيع يلعبان معاً.السيناريو الأول: ابتعد الرضيع فجأة عن والدته، أعجبته لعبة الابتعاد عن أمه، وقف يمص إبهامه ويحدق في الفضاء. الأم المتناغمة مع طفلها شعرت برغبته في اللعب بعيداً عنها قليلا.. توقفت عن اللعب وجلست في مكانها تراقب رضيعها، وبعد بضع ثوانٍ، يعود الرضيع إليها وتعابير وجهه تشي بالاهتمام والانجذاب للأم، ومرة أخرى تستجيب الأم لرضيعها، وتقترب منه مرحبة ومبتسمة، وتقول بصوت عالٍ ومبالغ فيه: "أوه، لقد عدت الآن"، ويبتسمان رداً على بعضهما البعض، ثم يعاود الطفل الابتعاد، وتنتظر الأم عودته ليحييان بعضهما البعض بابتسامات كبيرة.
السيناريو الثاني: يبتعد الرضيع، لكن الأم لا تنتظر عودته بمفرده، فتتحرك لتكون مرئية لرضيعها، وتقوم بحركات وأصوات لجذب انتباهه. ومع ذلك، يتجاهلها الرضيع ويستمر في النظر بعيدًا (ويحاول تهدئة نفسه عن طريق قطع التواصل البصري مع أمه)، ولكن الأم لا تلتفت إلى حاجته، وتستمر في محاولتها للاقتراب، فيعبس الرضيع ويهيج ويدفع وجه أمه، ويستدير مرة أخرى بعيدًا عنها.
في كلا السيناريوهين، يرسل الرضيع رسالة إلى الأم مفادها أنه يحتاج إلى تهدئة نظامه العصبي، عن طريق الابتعاد قليلاً.
الأم الأولى التي تناغمت مع احتياجات طفلها، كان صبرها مريحاً، وأوصل رسالة للطفل أنه حر في القدوم والذهاب كما يحتاج.
ولكن الأم الثانية لم تفهم إشارة أن طفلها لم يكن مستعدًا للاتصال مرة أخرى، ومن المحتمل أنها شعرت بالغضب أو القلق أو الحزن أو الشوق، أو أن لديها بعض المشاعر الأخرى التي تعارضت مع حاجة رضيعها إلى الابتعاد في تلك اللحظة، ويؤدي رد الفعل الخاطئ هذا إلى انقطاع في علاقتهما مما أدى إلى إطالة أمد "تدخلات" الأم، هذا جعل من الصعب على الجهاز العصبي للطفل أن يهدأ.
عدم التناغم أمر وارد الحدوث
يحدث عدم التناغم (misattunment) لجميع الآباء، وهذا أمر مقبول ووارد الحدوث، والمشكلة ليست في حدوثه، ولكن المهم أن نكون حساسين عندما يحدث وننتبه لذلك، ونعمل على إصلاح الخطأ واستعادة التناغم.وعلى سبيل المثال في السيناريو الثاني المذكور سابقاً، يمكن للأم عندما تلاحظ غضب طفلها، ورغبته في إبعادها أن تتوقف قليلا عن محاولات الاقتراب من طفلها وتسأل نفسها هل الاقتراب احتياجي أم احتياج طفلي، إذا كان احتياجيا فكيف أهدئ نفسي ريثما يعود، وعندما تشعر بالهدوء وقبول الابتعاد المؤقت لطفلها فإن هذه الرسالة ستصل لطفلها، وسيهدأ بالتبعية.
عدم التناغم المزمن والطفل غير الآمن
والمشاكل لن تنشأ من حدوث عدم تناغم أحياناً، فمن الطبيعي أن ننشغل أحياناً بهمومنا وصراعاتنا النفسية وضغوطات الحياة، ولكن مهم ألا يكون عدم التناغم هو القاعدة، فهذا هو ما يسبب صدمة التعلق، وما يخلق طفلا غير آمن، يتوقع انتهاكه و/ أو التخلي عنه عاطفياً، مما يدفعه لتطوير دفاعات وقائية للتعامل مع العالم غير الآمن. ووجد أن الأطفال الذين عانوا من عدم التناغم المزمن ينفصلون أكثر عن أمهاتهم وبقية بيئتهم ويشوهون تفاعلهم مع الآخرين، ومن ناحية أخرى، فإن تصميم أحد الوالدين على إصلاح التمزقات بعد حدوثها بفترة وجيزة يبني الأمان العاطفي.
يمكن للوالدين القيام بذلك من خلال الانتباه لكيفية تنظيم المشاعر لطفلهما وسلوكهما، ويوفر التعليم الأساسي في المشاعر وصدمات الطفولة أدوات تمكن الوالدين من السعي بشكل استباقي للوصول إلى روابط إيجابية، وفي نفس الوقت تحمل مشاعر الرفض وخيبة الأمل والغضب والحزن والشوق.